حوار القوى السياسية مع الرئيس يوم الاثنين الماضى، 3 يونيه 2013، وما جرى فيه من مناقشات وفضفضات حول سد النهضة الإثيوبى، لا شك أنه حوار معكوك من البداية للنهاية. بدأ عكه مساء الأحد 2 يونيه، عقب توجيه القصر الرئاسى دعوة للقوى السياسية، للمشاركة فى مناقشة تقرير اللجنة الثلاثية المختصة بموضوع السد. فَقبِل الحضور من قبل، ورفضه من رفض. غير أن تشويه القوى الرافضة للحوار، قد جرى على قدم وساق طيلة الليل وصبيحة اللقاء، حتى وصل الأمر لتهمة الخيانة العظمى. حملات التشويه الممنهجة بدأت على أشدها ضد الرافضين، خصوصًا حزب الدستور والمصريين الأحرار والمصرى الديمقراطى، كما لو كانت مشاركتهم ستحل موضوع السد أو تُرغم إثيوبيا على تأجيل بنائه. المدهش فى الموضوع، هو أن الحاضرين للحوار أنفسهم لم يسلموا من الأذى والنميمة. فقد جاءت التضحية بهم عبر إذاعة كلماتهم ومقترحاتهم، والتى من المفترض أنها سرية، على الهواء مباشرة دون إخطارهم بذلك. ومع أنه أمر طبيعى فى قضية تتعلق بمستقبل حياة المصريين أن يصل النقاش بالبعض لما تابعناه على الهواء من التهديد بالحرب، والتدخل فى تقسيم إثيوبيا وشرذمتها وتحريض المعارضين لحكمها، وخلق مشاكل لا حصر لها، إلا أن الجديد فى الموضوع هو الشرك المنصوب للقيادات المشاركة من قبل القصر الرئاسى. وهو ما دعا الجانب الإثيوبى بأن يستغل هذه الخصومة والتوريط على الهواء، ليتقدم لإحدى الجهات الدولية بالشكوى، مما حدث من مؤامرات حية ومكشوفة ضدها. القضية موضوع الحوار هى الأهم فى نظرى. فهى قضية عادلة تتعلق بحياة المصريين ومستقبلهم، ولن تجد مصريًا واحدًا يختلف حولها، ابتداءً من رجل الشارع العادى حتى رأس الدولة. فمياه النيل أهم شيء فى حياة المصريين عبر التاريخ، لذا تراهم قدسوه وعبدوه وقدموا له من القرابين ما يستنكره البشر، وصنعوا له من الآلهة ما جعله كالوثن. فأى تعدٍ على النيل فى أقصى نقطة جنوبية له، هو تعدٍ على حياتهم، وإعلان للحرب ضدهم. لكن يجب ألا يتخذ كل طرف من هذه القضية نوعًا من المكايدة السياسية والمعايرة بعدم الاهتمام والمشاركة فى مناقشتها. فيجب ألا نتهم الأحزاب الرافضة للحوار بشأنها، بعدم الوطنية وعدم تحمل المسئولية. فالموضوع أكبر من ذلك، والقضية تحظى بإجماع المصريين حولها. فلا الرئاسة أكثر وطنية من المعارضة بشأنها، ولا المعارضة أقل وطنية بعدم حضورها جلسات الحوار. فقد يكون عدم الحضور نابعًا من أسباب سياسية كلنا نعرفها ونقدرها، لهذا لا يصح جعل قضية مياه النيل نوعًا من المزايدة السياسية بشأنها. فلا نستغلها استغلالاً سياسيًا يأتى بمكاسب وقتية، لكنه يضر بمستقبل الوطن. فالأهم فى تقديرى هو الاستماع للخبراء والفنيين المختصين بالمسألة، وألا يقتصر الأمر على الأحزاب والقوى السياسية فقط. فالحوار الرئاسى الذى جرى الاثنين الماضى غاب عنه الفنيون والمعنيون بالقضية، أولئك الذين قضوا عقودا من حياتهم فى دراستها. فهؤلاء هم الذين يفيدون صانع القرار فى تأثيرات السد وفنياته ومخاطره وسلبياته. فكثير من القوى السياسية الرافضة للحوار كانت تنقصها المعلومات اللازمة، وتعوزها الخبرات الفنية للإحاطة بالموضوع برمته. وبالتالى لا يعقل مشاركتهم فى حوار يتعلق بالأمن القومى المائى، وله أبعاد فنية غائبة عنهم، ويدعون إليه فى المساء للمشاركة فيه فى الصباح. فعدم توافر المعلومات لديهم كان سيعرضهم حتمًا للحرج الشديد. فيظهرون على الشاشات كما لو أنهم لا يعرفون شيئًا عن الموضوع، وجهلاء بفنياته وخلفياته وظروف بنائه. ولو كانت الدعوة حسنة النية لأرسلت الرئاسة التقرير الفنى مصاحبًا للدعوة، لتتمكن القوى السياسية من قراءته والإحاطة به، ولا تتركهم هكذا يجتهدون قدر الإمكان، فيخطئون ويصيبون. هذا بالإضافة إلى أن بعض الرافضين يعتقد بأن الرئاسة تتعامل مع الأمن القومى بشكل انتقائى. فتعطى أولوية لموضوع المياه، ولا تلقى أهمية لأولويات أخرى لا تقل أهمية عنها، كموضوع سيناء والقضاء والعدالة والبطالة وغيرها من قضايا فى غاية الأهمية. الأمر الذى جعل بعضهم يراها محاولات مكشوفة من النظام لإلهاء المصريين، والتغطية على قضايا مصر الكبرى. ربما تكون الرئاسة قد استشعرت فى الموضوع فرصة لتوحيد المصريين حولها، وإظهار الوطن كتلة واحدة فى مواجهة إثيوبيا ومن يقف وراءها، وهذا حقها، لكن الحوار المعكوك الذى سبق اللقاء وبعده، جعلها تبدو حريصة لالتقاط الصور، وبث الحوار حيًا على الهواء ومكشوفًا، دون الوعى بالمضامين المطروحة من خلاله، ومدى تأثيرها على الأمن القومى المصرى. حرص الرئاسة على تسريب الصورة الحوارية، جعلها تخسر حتى هؤلاء الذين شاركوها الحوار وقدموا أفكارهم لها. ولهذا طالب البعض باستقالة الفريق الرئاسى كاملًا، خصوصًا بعد علمهم بأن الرئيس كان يعلم بأنه مذاع على الهواء. الحوار المعكوك حول قضية عادلة يا سادتنا الأشاوس، كشف انقسامات الداخل المصرى أمام العالم وإثيوبيا، وأبان سطحيتنا. فبدا كما لو أن القصر الرئاسى لا حاجة له بالمعارضة، ولا يشترى خاطرها، بل ويبيعها عند أول محطة. الحوار المعكوك يضيع علينا ملامح القوة والتماسك التى يجب أن نظهرها لخصومنا، بشأن حقوقنا العادلة فى حصتنا المائية. الحوار الذى يبدأ بعك، وينقل عكه على الهواء، دون استشعار لمخاطره وتبعاته، من الطبيعى أن يكون حوارا معكوكًا من أوله لآخره. فمتى ينتهى عكنا المباشر، وفى الغرف المغلقة؟ ومتى نبدأ حوارًا منضبطًا نتحمل فيه المسئولية أمام شعبنا؟ ومتى نؤلف الناس حول قضايا الوطن وهمومه، بدلًا من تفريقهم وشرذمتهم فرقًا وجماعات؟ حفظ الله الوطن ورعاه من شرور أنفسنا، قبل شرور أعدائنا. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين