كثيرة هي مشاهد الحالة المصرية في الآونة الأخيرة ، و التي تصيب المتابع له أحيانًا بالحيرة و كثيرًا ما تصيبه بالإحباط ، و إذا كنا بصدد التأمل في بعض تلك المشاهد فمن الطبيعي أن نبدأ بالأقدم ثم الأحدث ، لكني آثرت أن يكون المشهد الأخير هو مدخلي لما يحمله من تجليات واضحة غير محتاجة إلى تأويل أو بيان..و هكذا العادة فإن المشهد الأخير يحوي دائمًا ملخص المحتوى و مضمون الرسالة. المشهد الأخير (فيلم أجورا): يقول المشهد الأخير: إن الدكتور سيد خطاب ، رئيس الرقابة على المصنفات الفنية ، قد أكد أنه لن يتم عرض الفيلم الإسبانى «أجورا» إلا في المهرجانات فقط ، و ذلك حرصًا على مشاعر الأخوة المسيحيين ، بعد مطالبات المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية بمنع عرض الفيلم. و قال خطاب إنه قد تلقى خطابين من الأنبا بيشوى يؤكدان أن الفيلم يسيء من وجهة نظره إلى الديانة المسيحية. و يصور الفيلم مشاهد تاريخية عن وقائع المذابح التي قام بها متشددون مسيحيون ضد المختلفين معهم في الرأي و الدين ، و كيف أن الكنيسة قامت برجم الفيلسوفة "هيباتيا" التي كانت تتحدث عن "الجاذبية الأرضية" و اعتبروا كلامها هرطقة تستحق عليها القتل رجمًا بالحجارة ، و حاولت تهريب جانب من مكتبة الإسكندرية لإنقاذها من التدمير و الحرق ففشلت. و الغريب أن الفيلم أنتجه مسيحي و أخرجه مسيحي و قام بتمثيل الأدوار فيه مسيحيون. أقصد أنه لا شبه طائفية من وراء الفيلم. و لم تكن هذه الحالة الوحيدة فقد سبق أيضًا منع عرض فيلم شفرة دافنشي بنفس الحجة و هي الحفاظ على مشاعر الإخوة المسيحيين في مصر. و من قبل منع كتاب دكتور محمد عمارة "تقرير علمي" ، حينما قرر مجمع البحوث الإسلامية و هو أعلى هيئة فقهية في الأزهر سحبه معللاً قراره ب "ما فهمه بعض الإخوة المسيحيين" بأن ما جاء فيه "هو إساءة إلى مشاعرهم"!! مشددًا على أن الأزهر يسره في هذا الصدد "أن يستجيب لرغبة الإخوة المسيحيين" حرصًا على مشاعرهم. المشهد قبل الأخير (العلمانيون الصامتون): المفارقة العجيبة ألا تسمع لتلك الثلة من مدعي الثقافة و الفكر و الحضارة و المدنية و لجان حقوق الإنسان أي صوت يذكر ، فلم نسمع منهم أي شجب أو إدانة على منع الفيلم (أجورا) أو سحب الكتاب د. محمد عمارة ، ولو كان الكتاب لنوال سعداوي مثلاً و هي تدعو فيه إلى شذوذ أو تكيل اتهامًا لأحكام الدين لوجدناهم يملؤن الدنيا بالصراخ و يتباكون على حرية الفكر و الإبداع ، و لأعطونا الدروس العظيمة في خطورة وصاية الدين على الفن و الفكر و الإبداع. و لنأخذ على سبيل المثال موقف لأحد الكتاب غير المحسوبين على الإسلاميين ( مصطفى بكري) رئيس تحرير صحيفة الأسبوع ، و هو يطالب فقط بمنع المشاهد الجنسية الفجة من أحد الأفلام ، و ليس منع عرض الفيلم كاملاً ، حفاظًا على مشاعر المسلمين و كيف رد عليه هؤلاء. و يقو ل الكاتب وحيد حامد في رده على بكري "العمل الفني تتم مشاهدته بشكل كامل و ليس جزئيًا ، و هنا الفيلم يصور حالة خراب يعيشها الواقع الاجتماعي حيث ينخر الفساد في واقعنا الاجتماعي على جميع المستويات و بينها مستوى العلاقات الإنسانية و مظاهرها المختلفة و حالة الشذوذ جزء منها". و أكد أن "من حق الناس التي تشاهد الفيلم أن تتفق أو تختلف معه و لكني ضد فكرة الدعوة إلى المصادرة و الحذف و التحريض على المنع و اتهام الفيلم اتهامات فهذا شيء غير مقبول على الإطلاق". و أضاف "لا أنا و لا بكري شيوخ ، و الجملة الحوارية هي فقط جملة حوار عادية لا تحمل أية إساءة للذات الإلهية لا أنا و لا غيري يستطيع ذلك". و تابع "أنا لا أرى أن مجلس الشعب يجب أن يناقش مثل هذه الأمور فالمجلس غير ذات اختصاص سوى بالمنادة و حماية حرية التعبير و ليس قمعها". كما أبدى رئيس الرقابة المركزية على المصنفات الفنية الناقد علي أبو شادي استهجانه و قال : رغم إن "من حق بكري كعضو مجلس شعب أن يتساءل عن الفيلم بشكل مشروع ، فأنا مندهش بأن يصدر هكذا بيان عن صحافي كبير يدعو دائمًا للحريات". و قس على ذلك موقفهم من سيد القمني و نوال سعداوي و من الدعوات التي نادت بحظر بعض الأفلام التي تسيء للإسلام و رموزه. أتعجب أين ذهبت أقلامهم و حناجرهم و صحفهم و فضائياتهم؟... والعجيب أن من يقف وراء ذلك المنع جهة دينية و هي الكنيسة ، و آه لو كان الأزهر هو من وراء المنع.. لقامت الدنيا ولم تقعد. رفع الستار (الإسلاميون غائبون) صحيح أننا نجد بعض الدعاوى القضائية ضد بعض الإساءات والتهجمات على الإسلام أو رموزه ، وأحيانًا تصدر بعض بيانات الشجب والإدانة على استحياء من هنا أو هناك ، إلا أن الحقيقة التي لم مفر منها هي أن الإسلاميين ما زالوا غائبون عن الساحة المصرية ، دون احتكاك واشتباك حقيقي مع قضايا الأمة ، ومع أننا نلحظ انتشار مظهريًا للتدين عند المصريين ، إلا أن تجييش تلك الحماسة والرغبة في التدين تجاه التغيير تكاد تكون غائبة. فقد استقر في أذهان كثيرين أنه يكفيه أن يواظب على الصلوات و يبتعد عن المحرمات و تظهر عليه بعض أمارات التدين حتى يشعر بسلام نفسي داخلي ، و أنه أدى الواجب الذي عليه وزيادة ، في الوقت التي تهان فيه رموز الدين و تسن فيه القوانين و تعقد المؤتمرات و تقر توصيات التي في مجملها صد عن الله ورسوله ، و دعوى لهدم كيان و قيم الإسلام. والمطلوب أن يشعر المسلمون أن معتقداتهم و أخلاقهم و قيمهم في خطر حقيقي و أن على الجميع بذل الوسع، و أن يكون لجحافل المتدينين فعل واضح، حتى يأتي اليوم الذي نسمع فيه (حرصًا على مشاعر المسلمين). كتبه/ أحمد عمرو [email protected]