نحن نتعامل مع عودة محمد البرادعي المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية والحائز على جائزة نوبل للسلام باحتفالات وصخب على غرار ما يحدث في الموالد التي لا تعرف هل الناس فيها تحتفل بولي من أولياء الله الصالحين أم أنها وجدتها فرصة للتجمع والاحتفال والاستمتاع بمنافع أخرى لا علاقة لها بصاحب المولد ولا بالهدف من الاحتفال..! فالبرادعي عاد في مظاهرة إعلامية صاخبة شارك فيها بعض الجماعات السياسية التي تتعامل مع عودة البرادعي على أنها بداية التغيير وأن الفرصة قد تكون مواتية لها للتقدم سياسيًا للأمام بعد أن ظلت لعقود طويلة مجرد نوع من الديكور في الشكل الديمقراطي. والبرادعي الذي لا نعرف بعد هل عودته إلى مصر هذه المرة ستكون للإقامة النهائية أم أنها مجرد زيارة كما اعتاد منذ عمله في الخارج سيكون عليه وحده أن يحدد الهدف من هذا المولد الذي أقاموه لاستقباله، فهل سيكون هو صاحب المولد أم سيكتفي بالانضمام إلى القائمة الطويلة من المشاركين في حلقات الذكر التي تقام داخله..! فالبرادعي حتى الآن لم يعلن أنه يسعى لترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية في الانتخابات القادمة، وهو نوع من الذكاء السياسي في انتظار وترقب لما يمكن أن يحدث غدًا، وفي نوع أيضًا من التهدئة حتى لا يواجه مرة أخرى حملات التشويه القاسية التي تعرض لها عندما بدأ يتحدث من الخارج عن شروطه للترشيح للرئاسة. والبرادعي يقول إن هدفه هو المشاركة في عملية الإصلاح في مصر وأنه سيسعى إلى تحسين أحوال البلد، وهي أقوال لا جديد فيها لأن كل مصري مهتم بالشأن الداخلي يرددها وكلنا نقول نفس الشيء.. فالمطلوب من البرادعي أن لا يقتصر على الحديث عن السلبيات القائمة أو ضرورة التغيير في مصر، وإنما على البرادعي إذا ما أراد أن يحدث تغييرًا حقيقيًا أن يقدم برنامجًا متكاملاً لكيفية الإصلاح من الداخل يكون بمثابة خارطة طريق لمصر المستقبل سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، فحتى الآن فإن ما يقوله البرادعي لا يخرج عن نطاق كل ما تقوله الأحزاب القائمة والصحافة الحزبية والمستقلة..! والجديد في وجود البرادعي هو أن الذين يقولون هذا الكلام في مصر تشوبهم الكثير من علامات الاستفهام والاستنكار أيضًا، وليس لهم رصيد شعبي يساندهم ويدعمهم، أما البرادعي فبعد كل هذا الزخم الإعلامي وبعد الأداء المميز دوليًا فإنه يمثل الشخصية التي يمكن أن تحدث فارقًا في محيط التواجد على المستوى الشعبي. فوجود البرادعي على الساحة كشف تمامًا الأحزاب السياسية القائمة والتي لا تستطع على مدار عقود طويلة أن تفرز قيادة شعبية قادرة على التأثير وقيادة الجماهير، والذين رشحتهم أو طرحتهم هذه الأحزاب للدخول في معترك السباق الرئاسي لا يصلح معظمهم لرئاسة نادي مغمور أو لرئاسة مجلس مدينة على أحسن الأحوال..! وعلى البرادعي إذا ما أراد أن يحقق تأثيرًا في دفع خطوات الإصلاح أن يبتعد وينأى بنفسه سريعًا عن هذه التجمعات التي فقدت فاعليتها وصلاحيتها وتواجدها لدى الجماهير وأن يثبت أنه قادر على الالتحام بالأغلبية الساحقة من الناس الذين لا يفهمون ولا يهتمون بما يدور من معارك وصراعات بين النخبة. فالناس فقدت الاهتمام لأنها فقدت الثقة وعجزت عن فهم ومتابعة وتحليل ما يدور على الساحة، وأدركت بغريزتها أنه لا فارق يذكر بين أطراف الصراع بل ووصلت إلى قناعة أن التغيير أيضًا قد يكون ضارًا بها.. ولن يكون ذلك سهلاً أمام البرادعي لأنهم قذفوا به إلى أتون المعركة دون تجهيز مسبق ودون دفاعات قوية، فوجد أن عليه أن يخوض المعركة بما لديه في انتظار المدد الذي قد لا يأتي أبدًا، لأن البرادعي يتعامل مع المعركة بعقلية الماضي الذي كان يعرفه عن المجتمع المصري، ونسى أن سنوات طويلة من الغربة والتعامل مع حضارات وثقافات مختلفة قد أضعفت كثيرًا من مناعته الداخلية وأنه لن يكون صعبًا حصاره في ركن الحلبة وتسديد كل أنواع الضربات نحوه.. والخوف كل الخوف أن يجد أن المشجين قد تخلوا عنه أيضًا..! [email protected]