أرجو أن يدرك نظام الحكم في مصر الدلالات الخطيرة التي ترمز إليها ظاهرة البرادعي والتي أدخلت الرجل التاريخ علي طبق من ذهب، وكلما أساء النظام فهم الظاهرة كلما رفع البرادعي درجات وقد يكون البرادعي مدفوعاً من نفس الجهات المتحالفة مع النظام، ولكن هذه الملاحظة لا تمنع نشأة ظاهرة البرادعي التي لا تركز علي الرجل في ذاته وإنما تجعله كما كان يمكن أن تجعل غيره في نفس الظروف طرفاً في بناء الظاهرة، وقبل أن نفصل رسم صورة هذه الظاهرة أرجو مخلصاً أن يدرك النظام أبعادها، وأن يتصرف بإخلاص وذكاء هذه المرة قبل أن يسيء إلي نفسه قبل أن يسيء إلي غيره. تتكون ظاهرة البرادعي من ثلاثة أركان. الركن الأول هو الشعب المصري، والركن الثاني هو السيد إكس الذي تصادف أن يكون اسمه البرادعي بكل ما يمثله في هذه الظروف، وكأن مصر نفسها هي التي التي قرر جمال عبدالناصر بعد الثورة بسنوات قليلة أنها في ظل الملكية كانت تبحث عن مخلص، ولكن المخلص هذه المرة لم يبحث لنفسه عن دور، والركن الثالث هو نظام الحكم. فالركن الأول وهو الشعب المصري، انتظر ثلاثين عاماً تقريباً سدت أمامه جميع السبل واستمع إلي أغاني حب مصر والتعلق بها والاعتزاز بالمصرية ولكنه رأي أوضاعه تتدهور بشكل لا يتناسب مطلقاً مع امكانيات مصر الهائلة، فأدرك الشعب المصري بفطرته ومعاناته أن مصر بحاجة إلي نظام يزيح عن كاهله المعاناة ويعيد إلي مصر مكانها المسلوب في محيطها. ويندهش المجتمع المصري كلما ازداد بؤسه وعلا صراخه وقلت همته في الاحتجاج الجاد حتي قرأ النظام أنه شعب لا يثور وأنه يتصرف كلما تكاثرت عليه المآسي، واحتار المجتمع المصري في أن يوفق بين تسلط الحزب الوطني وفساده وشطارته وبرامجه الورقية وأبواق إعلامه، وبين الواقع الذي فاحت فيه روائح الفساد وانعدام الضمير وضياع البوصلة في كل اتجاه، فابتذلت عنده كل الشعارات النبيلة كالوطنية والاصلاح والتغيير وفقد الثقة تماماً في غده، ولكنه لم يستسلم لقدره وبحث عن مخلص ولكن المخلص لا يأتي، خاصة وأن هذا المخلص لابد وأن يتصدي لهذا النظام الذي عجز عن التصدي له، بعد أن أصبح الهاجس الأمني والقمعي هو أداة التعامل مع الشعب وبعد أن أفلس الحزب في تقديم وتجميل هذا الواقع. وقد بلغ الناس في تفكيرهم في الخلاص أحياناً إلي الانتحار الفعلي أو الجوازي أو النفسي أو حتي تمني احتلال أجنبي مهما كان لونه، ونظر الشعب إلي النخبة المثقفة المطالبة بالخلاص علي أنها عاجزة ولا أمل فيها، ولم ينصرف الناس هذه المرة كما حدث في عام 1967 إلا قليلاً إلي الدعاء لعل الله أن يرفع الغمة ويفرج الكرب. هكذا بدأ الناس يتطلعون إلي من تلقي به الأقدار أمامهم، وهم مستعدون إلي الإغضاء عما قد يعتري هذا المخلص البطل من روايات وشكوك. الركن الثاني، هو البرادعي نفسه الذي بدأ نجمه يصعد في الوكالة الدولية للطاقة الذرية منذ تسييس عمل الوكالة في البداية بقرار من مجلس الأمن رقم 687 حول العراق عام 1991، ثم دخل البرادعي إلي ساحة الجدل في العراق بقرار تفتيش العراق رقم 1441 ودخول البرادعي نفسه في الاعلام العربي للترويج لهذا القرار، ثم ما أثاره حول البرادعي هانزي بليكس وضابط المخابرات الأمريكية الذي دس في فريق التفتيش، ثم نوبل للسلام التي لا تعطي إلا لمن قدموا خدمة كبري لأصحاب القرار في نوبل مثل السادات وبيجن ورابين وغيرهم، ثم دخول البرادعي علي المسارح النووية: إيران، كوريا الشمالية، مصر وسوريا وإسرائيل التي زارها للمجاملة. فرغم علاقاته الأمريكية الفاقعة، فإن الظرف الذي يبحث فيه المجتمع المصري بإلحاح عن ربع قديس يريد هذا البطل حتي لو كانت لعبته محسوبة مع النظام، المهم أن يولد ضغطاً علي نظام تشبث بالبقاء كما أصر علي الهدم والفساد، بحيث لم يعد يثق هذا الشعب في أي انتخابات وأظن أنه لولا الإيمان لذهب به الشك في الأقدار كل مذهب. الركن الثالث، هو نظام الحكم الذي صمم دستوراً لا يفلت منه خيار غير ما خطط النظام، وحدد مستقبل هذه البلاد بالدستور، ورغم العبث البالغ في هذا الدستور إلا أنه أضفي عليه أعلي درجات القدسية وهاجم كل عمل خارجه، فسد طرق التغيير وهاجم المطالبين بالتغيير ونكل بهم واغتالهم معنوياً ومادياً، وتلبس الحزب جسد الدولة وعبث عبثاً فادحاً بمفهوم المواطنة ومبدأ المساواة وتكافيء الفرص، وفتح الباب واسعاً للفساد وتمكن من جميع خيوط العملية الانتخابية، حتي ظن الناس أنهم يقيمون في مصر الأخري بعد أن ضعف لديهم الشعور بمصريتهم. في هذه الظروف ظهر البرادعي فجأة، وهو الذي لم يعرف عنه يوماً ولو بالإيحاء أي مساندة للحركة الوطنية، كما أنه أعلن أنه سعد زغلول الثاني العائد من مقره الوثير وتقاعده المريح لكي يعلن بطلاً لهذه الأمة، ساقته الأقدار علي غير موعد، وهي المرة الأولي في تاريخ الشعوب التي تنتظر أي مخلص دون أن تعرف شيئاً عنه سوي أنه لمع في مكانه الدولي لظروف مختلفة، وأنه في النهاية مصري ويتطوع لإنقاذ مصر. فهل ينجح رهان الشعب علي بطله الجديد، أم أن نظامنا من الصلابة والحصانة بحيث يرد الجميع لكي يستمر قطاره علي طريقه مهما ارتفع عواء الشعب وصراخات المكلومين.