بالرغم من نسمات الصباح الباكر الباردة إلا أن شتاء مصر المشمس لا يحتاج ملابس ثقيلة أو ذات طبيعة خاصة ، ولذلك فقد دهشت والدة ( هدي ) وهي تصفف شعرها قبل نزولها للعمل حين رأت ابنتها قالت الأم : ( ماهذا يا هدي ؟ بنطلون استرتش تحت الجوب وإيشارب علي شعرك ، الجو جميل ) قالت هدي ( لا علاقة للجو بملابسي ، فقط أريد تغطية جسدي قبل الخروج ، سوف أرتدي الحجاب ) تلون وجه والدتها بألوان الطيف وظهر القلق الشديد في عينيها فتحت فمها كأنها تريد أن تصرخ فيها ولكنها استعادت رباطة جأشها زمت شفتيها وقالت وهي تشير بيديها بهدوء ( حسنا حسنا ، لي كلام طويل معك علي الغداء ثم تمتمت بصوت هامس تحتاجين المزيد من التربية ) فوجئت ( هدي ) في المدرسة أن صديقتها ( ابتسام ) قد فعلت مثلها تماما مع اختلاف بسيط فلم تعترض والدة ابتسام ربة البيت ولم تشجعها بل اكتفت بأن قالت ( كان أبوك رحمه الله شيخا أزهريا فاضلا ) وبعد أيام قليلة انتشر الإيشارب الأبيض في المدرسة ليغطي الشعر ويمنح الوجوه الصبوحة مسحة ملائكية وصار عددهن خمسة . في الفسحة التقت البنات كان لديهن اهتماما جديدا يتحدثن فيه ( الحجاب )، حول الكانتين حصلت كل منهن علي وجبة مكونة من اثنين ساندوتش وكوب من الشاي أو زجاجة مياه غازية بتكلفة خمسة قروش للوجبة ، غالبا كان هذا الشلن هو كل مصروفهن اليومي ، أما الذهاب والعودة للمدرسة فكان دائما وللجميع سيرا علي الأقدام أيا كانت المسافة ولذلك لم تكن رشاقة الغزلان غريبة عليهن ، في الحقيقة كانت ثقافة المجتمع كلها مختلفة ( عام 1974)، الجانب الجيد فيها كان جدية التعليم واحترام المدرس وتقارب مستوي المعيشة وعدم مبالغة الأهل في الحماية والتدليل ، كان حديث البنات حول كيف استطاعت كل منهن أن تتفنن في تعديل الزي ليصبح أكثر تناسقا وملائمة لشروط الحجاب والزي المدرسي معا ، أما رد فعل الأهل فلم يختلف كثيرا عن حالة هدي وابتسام وتقبلوا جميعا الأمر الواقع مع تصميم البنات ولكن المدرسة كان لها رأي آخر . وقفت مديرة المدرسة التي تقترب من عامها الستين وتبالغ في تبرجها وهي تخاطب البنات في الميكروفون أثناء طابور الصباح ( ما هذا المنظر الجديد علي مدرستي ؟ نحن لسنا في الأزهر وعلي الجميع الالتزام بالزي المدرسي دون أي تعديل أو إضافة ومن تخالف لا تأتي للمدرسة إلا ومعها ولي أمرها ) ثم مخاطبة أبلة سيدة الضابطة ( انزلي يا سيدة اجمعي الإيشاربات من فوق رؤوسهن ومن تعترض احضريها لمكتبي ) ما ضاع حق وراءه مطالب ،بعد مشاكل ورفت واستدعاء ولي الأمر تدريجيا خضعت إدارة المدرسة وصار الحجاب أمرا واقعا ، وفي العام التالي كانت صفة الزي المدرسي نفسها قد تغيرت لملائمة الواقع الجديد وصار بالإمكان ارتداء بدلة بجاكيت طويل أو جوب طويل وغطاء للرأس أبيض اللون ، وفي أحد الأيام أثناء انصراف هدي وابتسام وبعض الزميلات من المدرسة اعترض طريقهن رجلا في نحو الأربعين وقدم نفسه ( مختار حجاج : مخبر من أمن الدولة ) رحبت به هدي وقالت ( نحن نحرص علي أمن بلدنا بالطبع ، أي خدمة ) سأل الرجل ( من دعاكن للبس الحجاب ومن في المدرسة شجعكن ) وأجابت البنات بصراحة مطلقة وبكل التفاصيل وأشدن بالأستاذ ( محمد البحيري ) معلم اللغة العربية والدين وكيف كانت مساندته لهن ودعمه وتشجيعه وشرحه لكل ما يغمض علي فهمهن ، بل إنه وزع عليهن كتيبا صغيرا بعنوان ( التبرج ) للأستاذة نعمت صدقي ، وعقب ذلك غاب الأستاذ محمد عن المدرسة أسبوعين كاملين وعندما عاد كان هناك تغيرا واضحا في سلوكه نحوهن صار أكثر تحفظا، وعلي نحو غامض شعرت (هدي ) أنها ربما تسببت في أذي للرجل الطيب الفاضل ، ولم تكن المرة الأولي ولن تكون الأخيرة التي تندم فيها وتدين نفسها لأنها مسحوبة من لسانها وساذجة بشكل موجع . في خروجها مع الأهل كانت تفضل الجاكيت الطويل مع البنطلون الواسع وغطاء الرأس الذي تطور لطرحة تغطي الصدر ، وعندما اصطحبت جدتها لزيارة الطبيب يوما ، كانت الجدة قد ارتدت ملابسها المكونة من بالطو أسود طويل فوق القدم بقليل وطرحة سوداء شيفون وجورب ثقيل ، تأملتها الجدة في الطريق وقالت ( صرت تختفين داخل ملابسك أكثر مني ، ثم هزت رأسها وأضافت (أنت صغيرة جدا علي هذا ) في تطور إيجابي سمعت أمها يوما تهاتف خالتها قائلة ( البنت أحرجتني ، تصلي وتقرأ القرآن وترتدي الحجاب وتسلك سلوكا ممتازا مع الجميع ، نشعر أنا ووالدها أنها أفضل منا ) ثم كانت رحلة الحج التي وافق الأهل مع إلحاحها علي اصطحابها معهم وكانت طوال فترة أداء المناسك تصحب جدتها وتأخذ بيدها ، بينما والديها معا انتهزت الأم الفرصة واشترت لنفسها ولابنتها ملابس ملائمة وعادت محجبة من الأراضي المقدسة . رغم حجاب الأم إلا أنها قالت لها يوما : (أخفيت جمالك وأصبحت مثل العجائز ، أخشي أن ينصرف عنك العرسان ) وبخصوص هذا الأمر تحديدا كانت هناك مفاجآت . [email protected]