"الإسلام هو الحل"، شعار إخواني يعني أن الشريعة هي الحل الوحيد لمشاكل وأزمات البشرية عامة والأمة خاصة؛ كذا قال الأستاذ مصطفى مشهور، وقد صدق؛ فجزاء الإيمان والتقوى بركات السماء والأرض، وعاقبة الفسق وإشاعة الفاحشة والربا هلاك القرى ومحق البركة وخزي الدنيا والآخرة؛ على هذا نصت أدلة الكتاب والسنة. وبعد مرور قرابة العام من وصول الدكتور محمد مرسي إلى سُدة الحكم بدا للعوام أن المشروع الإسلامي فِرية ووهم، وكفر كثيرون بالمشروع الإسلامي ظنًّا منهم أن الشريعة لم تصمد في وجه الأزمات التي واجهت مصر، وهي فتنة لو تعلمون عظيمة.
لقد باتت النخبة الإسلامية المستقلة في مأزق، وهي ترى العوام يقلبون أكفهم دهشةً من التناقضات والأخطاء الشرعية التي لا تخطئها عين، وصار لزامًا على هذه النخبة أن تثبت للعوام أن الشريعة لم تصل مصر بعد، في محاولة أخيرة لإنقاذ الناس من خطر الكفر بعلاقة الدين بالسياسة والتحول اللاشعوري إلى العلمانية.
فشلت جماعة الإخوان في اختبار الإعلام الإسلامي، وخرجت قناة "مصر 25" إلى قمر النايل سات بمظهر فاضح استدعى هجوم الداعية الشيخ وجدي غنيم، على خلفية برنامج تحدثت فيه إحدى المذيعات مع قيادي إخواني عن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة.
ونشر موقع المصريون تعليقات فيس بوكية أبرزت استياء شباب الإخوان من ظهور مذيعات متبرجات "لا يعبرن عن المجتمع الإخواني ويقدمن صورة غير صحيحة عن الملتزمات"، لقد كان هذا الموقف كاشفًا؛ فالغضب الإخواني الشبابي والتوجه المحافظ لنائب المرشد خيرت الشاطر -المعروف عنه تحريمه الاختلاط بغير حاجة- لم يغيرا شيئًا في حال القناة التي ما زالت تعج بالمخالفات.
التقى الرئيس "الإسلامي" بالفنانين والفنانات، ونقلت بوابة الحرية والعدالة عن المتحدث الرسمي باسم الرئاسة د. ياسر علي قوله إن الدكتور مرسي كلفه بالاتصال بإلهام شاهين لمتابعة قضية امرأة يُقبلها الرجال ويباشرونها وتكشف عورتها في عشرات الأفلام، وأكد الفنانون الذين حضروا اللقاء أن الرئيس أبلغهم تقديره لفناني وفنانات مصر ولإلهام شاهين!
أكد الرئيس أنه لن يدَع المصريين يأكلون الربا؛ لكنه أصر على طلب قرض صندوق النقد الدولي الذي رفضه الشيخ سيد عسكر في عهد حكومة الجنزوري، وقتها قال الشيخ الإخواني: إن أي اتفاقية بقرض آليت على نفسي ألا أوافق عليها أبدًا. مستشهدًا بقول الإمام مالك: " لو أعطى إنسان لآخر مالًا على أن يرده إليه بزيادة حبة قمحٍ كان ربا"، وأشار عسكر في إحدى جلسات مجلس الشعب إلى أن التدرج في تحريم الربا لم يعد جائزًا بعدما استقر الحكم. لقد جاءت الحلول الرئيسة لعجز الموازنة في صورة قروض لا تخلو من شبهة الربا؛ كالقرضين السعودي والأوروبي.
كذا، بدأ الترويج لإنجازات حقيقية بأسلوب يشوبه الكذب بغرض دعم الرئيس، فكتب موقع الإخوان الرسمي عن كمبيوتر لوحي صناعة مصرية 100% لنكتشف أن المعالج والشاشة والبطارية من صنع الغرب، وقدم المركز الإعلامي للإخوان ببورسعيد (التابلت) بوصفه ردًّا على من يسألون عن النهضة، وتحدث موقع الإخوان الرسمي عن قدرة الرئيس على "انتزاع" اتفاق مع شركة (سامسونج) لنجد أن الشركة تدرس الاقتراح منذ 2009، وأن دور الرئيس اقتصر على الموافقة.
لم يقدم الرئيس شيئًا للضباط الملتحين الذين خسروا عملهم بتهمة اتباع النبي، صلى الله عليه وسلم؛ على الرغم من حصولهم على عدة أحكام قضائية تقضي بإعادتهم إلى عملهم؛ بل وفاوض رئيس حزب الحرية والعدالة الدكتور الكتاتني الضباط للعودة إلى عملهم صوريًّا بشرط التقدم بطلب إجازة لمدة ستة أشهر! بل واستطاعت الداخلية أن تهين اللحية في صورة جمال صابر معصوب العينين، ونجحت في أن تحلق لحية أحمد عرفة العضو بحركة أحرار.
لقد تخلى الرئيس وجماعته عن الضباط الملتحين في مشهد يناقض ما أكده الداعية صفوت حجازي المحسوب على الجماعة، والذي وقف قبل الانتخابات الرئاسية ليقول: أثق أنه إذا صرخت سيدة مسلمة مصرية في أي مكان وقالت وامرساه فسينتفض لها مرسي من قصر القبة.
فتح الرئيس الإسلامي المجال للعلاقات مع إيران للمرة الأولى منذ عقود، وانطلقت الرحلات من القاهرة إلى طهران والعكس، في الوقت الذي تقوم الميليشيات الإيرانية بإبادة أهل السنة في سوريا. وتبارى بعض شباب الجماعة في التهوين من خطر التشيع، وهذا مثير للعجب، فإخوانهم في حماس المسيطرون على قطاع غزة يعانون من الاختراق الشيعي للقطاع، وصرّح القيادي الإخواني صبحي صالح بأن سب الصحابة ليس خلافًا في العقيدة، وطالب آخرون السلفيين بالتركيز على التخلص من الهيمنة الأمريكية، في وقت يقدم الرئيس فيه الضمانات لصندوق النقد الذي تحركه واشنطن، لقد اعتبر الدكتور محمد مرسي قبل توليه الرئاسة الحديث عن الاستغناء عن المعونة الأمريكية معطلًا للمسيرة نحو استكمال المؤسسات الدستورية للدولة.
ويسعى الرئيس لطمأنة الاتحاد الأوروبي الذي ربط إقراضه مصر بإرضاء المعارضة وإصلاحات في مجالي الحريات والمرأة، قبل أيام من موافقة مصر في عهد "الحكم الإسلامي" على اتفاقية أفتى الأزهر والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ورابطة علماء المسلمين بتحريمها.
لقد أكدت قيادات الإخوان مرارًا على أنها ستطبق الشريعة الإسلامية وأنها في الوقت نفسه تقبل بالآليات الديمقراطية، ونظرًا للتعارض المتصور والمحتمل بين الشريعة والديمقراطية كان الإخوان يؤكدون على المرجعية الإسلامية كضابط للديمقراطية وليس العكس؛ وهو ما كذبه الواقع عندما أعلنت الجماعة على لسان القيادي عصام العريان رفضها إحالة قانون الصكوك إلى الأزهر؛ فالشعب برأي الجماعة مصدر السلطات، والقوانين لا ينبغي أن تُعرض على الأزهر لاستبيان الحكم الشرعي فيها إلا إذا طلب نواب الشعب بالأغلبية ذلك!
لقد وضعنا هذا الحدث أمام سؤال تأسيسي: هل كانت الجماعة تريد تطبيق الشريعة عن طريق الديمقراطية أم أرادت تطبيق الديمقراطية باستخدام الشريعة؟ وتسبب هذا الخلط بين الديمقراطية والشريعة في تخبطات مزعجة؛ فهذا الدكتور مرسي يطالب -قبل توليه الرئاسة- الشعب بالثورة عليه إذا خالف الدستور والقانون، وذاكم الدكتور عبد الرحمن البر، مفتي الجماعة، يفتي بأن الرئيس مرسي ولي شرعي لا يجوز الخروج عليه.
كذلك، أصبح التوسع في باب المصالح والمفاسد وتتبع الرخص شائعًا جدًّا، وركنت الجماعة إلى تبرير المواقف المستنكرة بصلح الحديبية وحادثة ربعي بن عامر وحلف الفضول، وكثر الحديث عن فقه الأولويات وإباحة الكذب على العدو، وبدا أن الجماعة لا تزال تعيش في المرحلة المكية وأن هجرتنا إلى المدينة ستتأخر جدًا.
الاستدعاء المتكرر للوقائع الأنفة جعل الإسلام في نظر الناس دينًا (براجماتيًّا)، يغفل جانبًا عقائديًّا يقوم فيه الحل على اليقين في أن من يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، وعلى التسليم بأن الالتزام بحدود الشرع سبيل النجاة في الدنيا والآخرة.
غابت السياسة الشرعية التي لا تعرف التلون، وقبل الانتخابات الرئاسية وصف الرئيس مرسي عبد المجيد محمود بالمحترم، وأثنى على نادي القضاة باعتبارهم أبرز من وقف في وجه تزوير الانتخابات البرلمانية 2010، لكن الدكتور حسين إبراهيم، أمين عام حزب الحرية والعدالة، اعتبر عبد المجيد محمود واحدًا من رموز عصر مبارك، مشيرًا في تغريدة نشرها في مارس الماضي إلى أن إقالة النائب العام السابق كانت أحد أبرز مطالب الثورة!
إن الجماعة التي اعتبرت إقالة حكومة الجنزوري أمرًا بدهيًّا بعد كارثة بورسعيد لم تعلق على استبقاء الرئيس حكومة قنديل بعد حادثتي قطار البدرشين وتسمم طلاب الأزهر.
كذا أكد القيادي الإخواني صبحي صالح إن الجماعة تسعى إلى تطبيق أحكام الشريعة كاملة؛ لكنه عاد ليقول إن الجماعة توافق على مبادئ الشريعة فقط دون أحكامها، في اتصال هاتفي مع الإعلامي وائل الإبراشي على شاشة قناة دريم.
وأطلق الرئيس قبل الانتخابات تصريحيه الشهيرين بأن الحدود ليست من الشريعة وأن نصارى مصر لا يؤمنون بالتثليث، وأرسلت الجماعة وفدًا على رأسه مرسي والكتاتني ومفتي الجماعة لتهنئة شنودة الذي أبى أن ينصاع لحكم محكمة بإلزامه بالتصريح للمطلقين بالزواج للمرة الثانية وقال: نحن لا يلزمنا أحد إلا تعاليم الإنجيل فقط.
وقال مرسي في اجتماع مع المشايخ قبيل توليه المنصب إنه يرى الشيعة أخطر من اليهود؛ فلا تدري أكان هذا دكتور جيكل أم مستر هايد، ذلك لأنه قرر بعد الرئاسة إعادة العلاقات مع إيران واستقبال السياحة الإيرانية.
إنها لصورة غريبة للغاية عن تلك التي تفخر بها أدبيات الإخوان وتزخر، والتي أذكر منها على سبيل المثال تعجب البعض من صراحة الأستاذ سيد قطب أمام المحكمة التي قضت بإعدامه، فأجاب الرجل بأن "التورية لا تجوز في العقيدة، وليس للقائد أن يأخذ بالرّخص".
يواصل إعلام الجماعة تحميل بعض وزراء الحكومة التي عينها الرئيس المسؤولية عن السلبيات باعتبار هذه الوزارات خارجة عن سيطرة الرئيس ومتآمرة عليه، في الوقت نفسه ينسب الإعلام الإخواني إنجازات الوزراء الناجحين إلى الرئيس؛ فهذا الإعلامي نور الدين عبد الحافظ ينتقد وزير الدفاع لنقل الإعلامي يسري فودة المصاب في طائرة عسكرية، وهذا الإعلام الإخواني يروج لإنجازات الرائع باسم عودة بوصفه مسؤول ملف التموين في مشروع النهضة، حتى إن موقع نافذة مصر الإخواني كتب عنوانًا قال فيه: وزير التموين يطبق مشروع النهضة ويضمن للشعب مخزون القمح.
إننا لسنا فقط أمام ثلة ضخمة من التناقضات التي قد تتعرض التجربة للدفن تحتها؛ بل نحن كذلك بصدد وعي جمعي للجماعة لا يلتقط العيوب الذاتية وليس لديه رغبة في المران على التقاطها، وليس لديه كذلك رغبة في المران على قبول الآخرين من أطياف الحركة الإسلامية، لقد غاب مفهوم جماعة المسلمين عن الإخوان لصالح جماعتهم، وانحسرت شورى المسلمين وانحصرت في حدود مكتب الإرشاد في تجسيد متطرف لمفهوم الفرقة الناجية.
حول ذلك يقول الباحث الإسلامي أحمد فهمي في كتابه "مصر 2013": "يمتلك المنتمون لجماعة الإخوان المسلمين قناعة قوية بأن حركتهم هي الجديرة بقيادة الأمة نحو الإصلاح والتغيير المنشود، وأن غيرهم من الجماعات الإسلامية هم مجرد عقبات في الطريق، لا يملكون أي خطط أو مشروعات واضحة للتغيير، ولذلك يجب إزاحتهم أو احتواؤهم".
نعم، يشعر الإخوان بأنهم الإسلام، وفي هذا يقول القيادي صبحي صالح في مؤتمر للجماعة بالمطرية: "لو لم يكن الإخوان لقلنا رحم الله الإسلام"، ويقول القيادي نفسه عقب الاعتداء عليه: "اللهم أمتني على الإخوان".
إن خطورة تقديم المشروع الإخواني كمشروع إسلامي لا تكمن فحسب في افتتان العوام الغاضبين من هذه التناقضات والمراوغات، بل في تعضيد ضلالات التيار العلماني الذي يحاول أن ينحي الدين جانبًا بدعوى أن الإسلام يحتمل تأويلات لا حصر لها.
خطر آخر يحدق بالمشروع الإسلامي، وهو أن الأطروحات الإسلامية التي تقدم نفسها كبديل ناضج ومستعد هي في الواقع إما نسخة براجماتية مقلدة وإما حناجر إعلامية تعتمد على الكاريزما في الإقناع أكثر من المنهج، لنصل إلى صورة "الحصالة" المتخمة بالعملات النقدية الكثيرة لكنها للأسف زهيدة الثمن. حسام عبد العزيز