يخطئ من يتصور أن حالة الاستقطاب الحالية في المشهد السياسي المصري هي حالة غريبة من نوعها، أو أننا على وشك حرب أهلية وانهيار للدولة نتيجة انقسام المجتمع، أرجوك.. لا تستغرب حينما تعرف أن غالبية دول العالم حاليًا تعيش تجارب مشابهة في حياتها السياسية، ولكن لأننا حديثو عهد بالحرية الحقيقية.. فالكثير منا كان يتصور حالة مثالية، يؤسفني القول أنها غير موجودة في عالم الحقيقة. زيارة سريعة لمدينة إسطنبول التركية خلال هذا الأسبوع، قمت خلالها بلقاء مجموعة من السياسيين والباحثين، اقتربت أكثر من المشهد السياسي هناك، وكان تركيزي هذه المرة منصبًا على دراسة قوة المعارضة وأدوات عملها داخل المجتمع التركي، من خلال معرفة قدرتها على صناعة الحدث ومواقفها تجاه الأحداث السياسية المختلفة، في مقابل قدرة حزب العدالة والتنمية بقيادة (أردوغان) على مواجهة المعارضة التي تمتلك قوة أساسية تتمثل في نفوذ ضخم يسيطر على أغلب وسائل الاعلام، التي تعمل لصالحها بشكل احترافي ومتميز. أول الصراعات التي تدور رحاها منذ فترة بتركيا واشتدت وتيرتها في الأسابيع الماضية هي قضية الدستور الجديد التي تتم صياغته النهائية هذه الأيام، فأردوغان يراهن على أن الدستور الذي تم إعداده هو الأفضل في تاريخ تركيا، لأنه يلبي طموحات الشعب، أما زعيم حزب (الشعب الجمهوري) أكبر الأحزاب المعارضة فقد وصف (أردوغان) بالديكتاتور المنتخب، وحذر من أنه يقود البلاد إلى كارثة دستورية، وركز زعيم المعارضة على فكرة أن الدستور الجديد لا يحمي الحقوق الفردية، بقدر ما يزيد النفوذ الشخصي للديكتاتور (أردوغان) باستحداث منصب الرئاسة التنفيذية، التي سيصبح على رأسها في أعقاب الانتخابات المقبلة، وكان رد فعل (أردوغان) على هذه الاتهامات ببساطة أنه طلب من البرلمان الإسراع بإقرار الدستور، وإلا فإنه سيلجأ إلى خيار الاستفتاء الشعبي الذي يطمئن إلى نتيجته مسبقًا، ويبقى السجال مستمرًا بين الحكومة والمعارضة، من دون رؤية واضحة في الوقت الحالي لما يمكن أن يصل إليه صراع الدستور الجديد. الاستراتيجية الثانية التي تحاول قوى المعارضة التركيز عليها، هي محاولة جعل الشارع التركي في حالة حراك مستمر بما يخطف الأضواء من أي إنجازات يحققها حزب العدالة والتنمية، ومن هنا نشأت فكرة القيام بمظاهرات أسبوعية ووقفات صامتة في كافة المدن التركية الرئيسة، أطلق عليها اسم (الصرخات الصامتة)، وذلك على خلفية اعتقال عشرات الشخصيات العسكرية وجهت إليهم تهم "التآمر" على حكومة (أردوغان)، وبالرغم من أن المعارضة حاولت جمع أكبر عدد ممكن من الأتراك في المظاهرات للضغط على الحكومة وإحراجها، إلا أن عدد المشاركين في تلك المسيرات لم يتجاوز بضع مئات، ولذلك فقد صعدت المعارضة من احتجاجاتها وأصرت على تنظيم مظاهرات في عيد العمال، وبالذات في ميدان (تقسيم) الشهير، الذي منعت الحكومة التظاهر به منذ فترة، نتيجة وجود أعمال حفريات وإصلاحات فيه، وكان الهدف هو أيضًا إحراج الحكومة ووضعها بين خيارين كلاهما مر؛ فإما أن تسمح الحكومة للمظاهرة أن تتم إيثارًا للسلامة؛ وهو ما يضعها في موقف الضعيف، أو أن يتم منع المظاهرة؛ وهو ما يمكن استغلاله إعلاميًا لإثبات أن (أردوغان) ديكتاتور يقف ضد الحريات، ولكن الحكومة قررت اللجوء للحل الثاني، وأصرت على منع المظاهرة مهما كلف ذلك، وكانت النتيجة حدوث مواجهات قوية أصيب فيها 16 شخصًا على الأقل، وتم اعتقال 20 آخرين، واستخدمت الشرطة خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين، وهنا انطلقت وسائل الإعلام كلها في توقيت واحد لتشن هجمة إعلامية شرسة على الحكومة والشرطة التي تستخدم العنف المفرط ضد المتظاهرين، وأبرزت وسائل الاعلام تصريحات (كمال قيليجدار أوغلو)، رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض، والتي تحدث فيها عن سجن (سيليفري) الذي يتم فيه الاعتقال، واعتبر أنه في الأربعينيات كانت توجد معسكرات اعتقال في ألمانيا النازية، واليوم في الألفية الثالثة يوجد في تركيا مركز اعتقال آخر في "سيليفري"، والقاسم المشترك بينهما هو معارضة الحزب الحاكم، لافتًا إلى وجود أساتذة وأكاديميين وصحفيين ومؤلفين في معسكر الاعتقال. رد (أردوغان) على تصعيد المعارضة جاء خلال هذا الأسبوع، من خلال تسلّم البرلمان التركي ملف الحصانة الخاصة برئيس حزب الشعب الجمهوري (كمال قيليجدار أوغلو)، ورئيس حزب السلام والديمقراطية (صلاح الدين دميرطاش)، بصفتهما نائبين بالبرلمان، لمناقشة رفع الحصانة القانونية عنهما وإجراء التحقيق القانوني اللازم، حيث وُجّهت إلى (قيليجدار) تهمة "التهكم والإهانة" لشخص رئيس الوزراء (أردوغان) في أكثر من موضع، كان آخرها تشبيهه بأنه قاتل مثل الرئيس السوري (بشار الأسد)، أما (دميرطاش) فقد وجهت إليه تهمة "امتداح الجريمة والجاني"، لأنه طالما انهال بالمدح والثناء على زعيم منظمة حزب العمال الكردستاني، الذي تعتبره تركيا تنظيمًا إرهابيًا. صحيح أن المعارضة التركية صوتها عال، ولكن السلاح الأقوى لأردوغان في مواجهتها هو الإنجاز الحقيقي على الأرض، وتلبية احتياجات المواطن وتحقيق رفاهيته بشكل متميز، وهو الأمر الذي ما زال يحقق فيه أردوغان نجاحات مستمرة، وهو كذلك الدرس المهم لكل حزب أو زعيم يرغب في أن يستمر في الحكم لفترات متتالية. ولكن كيف تعامل أردوغان مع الهجوم الإعلامي، وحملات التشويه والسخرية المستمرة، وكيف رد على المؤامرات التي استهدفت الإطاحة به، هذا ما سوف نتناوله بمزيد من التفصيل في الأسبوع القادم إن شاء الله. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.