هادنت الصين طيلة العقود السابقة ، العربدة الأمريكية وتدخلاتها في الشأن الصيني .. وعضت على نواجذ الصبر كثيرا، لعل ذلك يجدي وينفع، ولأجل أن تتبوأ مكانة تسمح لها بالصمود يوما ما . وما أن لاحت الفرصة حتى كشّر التنين عن أنيابه ، وأعلن صراحة عن عدم سكوته على سلسلة الاستفزازات المقززة .. تدخلت أمريكا في تايوان وفي التبت وفي سياسته الأمنية الداخلية ، وحرّضت جيرانه على التحرّش به ، فبلغ السيل الزبى ،ولم يعد للصين ما يمكن مداراته وغض الطرف عنه .. أغلب الظن أن أمريكا ستتراجع عن الكثير من مواقفها، خاصة في ظرف هي أحوج فيه لهدوء التنين .. فالصين اليوم ثاني أقوى اقتصاد في العالم ، وفي طريقها إلى الصدارة ،في ظل شبه الانهيار الأمريكي اقتصاديا ،بل وعسكريا ، في زمن سقوط فعالية الأسلحة الأسترتيجية التقليدية ،وبالمقابل لا أظن أن الصين ستفوّت فرصة العواصف العاتية المحيطة بمركب الخيبات الأمريكية ، وإن تعاملت معها بالهدوء المعهود عنها ،والذي ينم عن سياسة ذكية ، تعرف من أين يؤكل الكتف ومتى.. والذي يُبطئ من فاعلية الصمود الصيني ،بل والإنتقام من عدوها التقليدي منذ الثورة الماوية ،يكمن في جوانب منه في مواقف الأنظمة العربية المرتبطة بسياسات الولاياتالمتحدة في المنطقة، للأسف الشديد.. والدب الروسي ينتظر صحوة عربية تدفعه إلى نفس الموقف الصيني ، وقد أكد ت عقيدته العسكرية مؤخرا حجم قلقه من العربدة الغربية ، ولكن الحياة لا تُبعث في جسم ميت ، ولكنها يمكن أن تُبعث في جسم قابل للحياة.. متى تستشعر الأنظمة العربية مواقع جديدة قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة ؟ فالذي يصر على الانتحار لن تجدي معه المواعظ -على ما يبدو- ولكن المهم أن نبصره بخطورة إقدامه على النهاية المؤلمة .. ونقولها بصراحة: إن دعوتنا لهذه الأنظمة أن تحرّك ساكنا ، ليس مبعثه، قناعتنا بها ، ولكن مبعثه أن تُحدث التغيير في مواقعها السياسية والاقتصادية، بأقل خسائر ممكنة،وقبل فوات الآوان.. فلتنظر إلى ما حلّ بالباكستان وغيرها، من ثورات واضطرابات لارتباط أنظمتها بأمريكا وبصورة عمياء .. فالفعل يُحدث رد فعل ، ولا يتخلف في الزمان والمكان..وما انتشار وتوسعات رقعة القاعدة إلا مؤشرات تدلل على ما نقول.. وما يبدو غريبا في السياسة الدولية ،لن يكون كذلك يوما ما ، فهل تضطر الولاياتالمتحدة إلى غض الطرف عن سقوط الأنظمة لصالح القاعدة ، مقابل توقف القاعدة عن تهديد الغرب في عقر داره؟! إن برجماتية السياسة الغربية تفضي إلى مثل هذه المواقف حين تجد نفسها في مأزق الهزيمة المتوقعة .. وعندها لن تجد الأنظمة من يترحّم عليها .. قد يهوّن البعض من خطورة القاعدة على الأمن الغربي، ولكن تكاليف هذا الأمن باتت باهظة ومقلقة ،خاصة في ظروف تغيّّر تكتيكات عناصرها للوصول إلى أهدافها ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ،نجد أن هذا التشديد الأمني يحد من حركة الاقتصاد الغربي لتجاوز محنته ، بالإضافة إلى عجز الأجهزة الأمنية الغربية والتابعة لها ، للحد من توسع نشاط القاعدة فضلا عن تجفيف منابعها ، مع العلم أن الاقتصاد المنافس في الصين وروسيا والهند والبرازيل وغيرها ،ينعم بقدر كبير من الأمان والاندفاع.. والراصد لمجريات الأحداث يلاحظ أن عددا من الدول المتحالفة مع الولاياتالمتحدة ، يتآكل أمنها، في حين أن الدول المناهضة لها تتحفّز للانقضاض رغم محاولات التشويش الفاشلة .. ويُلاحظ أيضا أن أهداف أصدقائها مصلحية ذاتية ،لاغير ، بينما أهداف خصومها عقائدية راسخة بين جميع أعضائها، وشتان ما بينهما في الفاعلية و الأداء .. فالمجموعة الأولى أتباعها مضطرون ، والثانية أتباعها مقتنعون .. فالمضطر يتخلى عن موقفه في أول فرصة ، لشعوره أنه مجند لمصلحة غيره ،والمقتنع يستميت في موقعه حتى النهاية لشعوره أنه يدافع عن نفسه قبل غيره. ومن هنا يسهل اختراق الأولى ويصعب ذلك في الثانية .. وهذا ما حدث بالفعل في مواقع الصراع طيلة السنوات الماضية ..أليس كذلك؟ واستتبع ذلك المنابر الإعلامية ، فمنابر المجموعة الأولى تبرر سياساتها بالمزيد من الأخطاء لهشاشة موقفها،ثم نجدها تدين نفسها بالعجز ،وتسعى إلى ترميم المتصدع ، ولا سبيل إلى ترميمه و تزويقه ، بل وسعت من دائرة المؤيدين لخصومها!! وقد حاولت لفت أنظار العامة إلى غير المهم في حياتهم العملية بملاعب كرة القدم وأخبار بعض الفنانين ومشاكلهم الشخصية ،وكيفية إعداد أشهى المأكولات ،وكأن العامة وجدت الخبز الحاف حتى تشتهي غيره!! ورغم ذلك حصلت على اهتمام الهامشيين والمتفرجين ، دون الفاعلين والمؤثرين ،لتصنع "أمجادا" بديلة لحياة الشعوب والأمم!! أما منابر المجموعة الثانية ورغم قلة إمكاناتها ،فنجد حججها تسرى في أوساط المجردين من الأطماع ،وهم الغالبية العظمى من المتلقين ..