"إننا مصريون بهذه البقعة الكريمة التي نبتنا فيها ونشأنا عليها. ومصر بلد مؤمن تلقي الإسلام تلقيًا كريمًا وذاد عنه العدوان في كثير من أدوار التاريخ وأخلص في اعتناقه و طوى عليه أعطف المشاعر وأنبل العواطف، وهو لا يصلح إلا بالإسلام ولا يداوى إلا بعقاقيره ولا يطب له إلا بعلاجه. وقد انتهت إليه بحكم الظروف الكثيرة حضانة الفكرة الإسلامية والقيام عليها فكيف لا نعمل لمصر ولخير مصر؟ وكيف لا ندفع عن مصر بكل ما نستطيع؟ وكيف يقال إن الإيمان بالمصرية لا يتفق مع ما يجب أن يدعو إليه رجل ينادي بالإسلام ويهتف بالإسلام! إننا نعتز بأننا مخلصون لهذا الوطن الحبيب عاملون له مجاهدون في سبيل خيره، وسنظل كذلك ما حيينا معتقدين أن هذه هي الحلقة الأولي في سلسلة النهضة المنشودة، وأنها جزء من الوطن العربي العام، وأننا حين نعمل لمصر نعمل للعروبة والشرق والإسلام. وليس يضيرنا في هذا كله أن نعنى بتاريخ مصر القديم, وبما سبق إليه قدماء المصريين الناس من المعارف والعلوم. لعل هذه الكلمات الواضحة للشيخ حسن البنا - والتى تعمدت نقلها حرفيًا- أبلغ رد على الذين يتقولون على الإخوان ويتهمونهم في وطنيتهم، فتارة نسمع عن تنازلهم عن حلايب وشلاتين وتارة أخرى عن تنازلهم عن سيناء لتوطين الفلسطينيين، والغريب أن من يثيرون هذه الترهات والأباطيل، ويرفعون سلاح التخوين ويتصورون أنهم يملكون صكوك الوطنية يستشهدون بأقوال وآراء حسن البنا، ونحن إذا تأملنا من يرددون هذه الأقوال نجدهم ينقسمون الى ثلاثة أقسام:. القسم الأول: الذي يلتقط من أقوال الإخوان كلمة من هنا وأخرى من هناك كحاطب ليل دون بذل الجهد لمعرفة حقيقة موقفهم، ولهذا تأتى أحكامه بعيدة عن الحقيقة. القسم الثانى: الذي ينقل عن الآخرين دون تحرٍ أو بحث. القسم الثالث: الذي يعي تمامًا حقيقة موقف الإخوان من الوطنية ولكنه يتعمد نقل مايدعم اتهامه للإخوان ويوظفه في خلافه السياسي والفكري معهم. لقد نشأ حسن البنا (1906 – 1949) في عصر شهد نقاشًا وجدالًا شديدًا حول هوية مصر، فالبعض رفع لواء الوطنية المرتبطة بالحدود الجغرافية، وكان لهذا الاتجاه الغلبة بعد ثورة 1919 الذى كان معظم قادتها ينتمون إلى حزب الأمة الذي كان يرفع شعار مصر للمصريين، بينما رفع البعض الآخر شعار القومية ونادى بالفرعونية مثل سلامة موسى ثم ظهر الاتجاه العروبي الذي شهد تحول كثير من المنادين بالفرعونية والمصرية إليه، في تلك الأجواء التي كانت تثار فيه قضية انتماء مصر ظهر حسن البنا الذي توقف كثيرًا عند هذه القضية في مقالاته ورسائله وخطاباته والذى يجب التوقف عندها بوصفه مؤسس جماعة الإخوان وواضع الإطار الفكري لها لقد حرص حسن البنا عند تعرضه للمصطلحات المتداولة في عصره مثل الوطنية ، والقومية، والشرقية على تحرير معاني هذه المصطلحات، وهو أمر نحن في أشد الحاجة إليه الآن في ظل فوضى المصطلحات والمفاهيم التي نحياها، والتي لا نعرف لها تعريفًا محددًا مثل العلمانية والليبرالية والدولة المدنية صحيح أن بعض المصطلحات المتداولة على الساحة الآن نشأت في الغرب في بيئة وظروف مختلفة عن ظروفنا، كما أن لها في الغرب مفاهيم محددة إلا أنه من الصعب إصدار أحكام على من يتبنون هذه المصطلحات انطلاقًا من التعريفات الغربية لها، ومن هنا تأتى أهمية تحديد وتحرير معناها لدى من يتبنونها حتى يمكن الحكم عليها بصورة صحيحة، وكما تقول القاعدة الفقهية فإن الحكم على شيء فرع من تصوره. لقد حرص البنا على تحرير معنى الوطنية والقومية، والتأكيد على المعاني الإيجابية لهما مثل حب الوطن والعمل على تحريره واستقلاله وتقوية الروابط بين أفراد الوطن، ونبذ ورفض المعاني التي رأى أنها سلبية وتتعارض مع رؤيته الإسلامية مثل تقسيم الأمة إلى طوائف متناحرة والتعصب والعدوان. وقد أوضح البنا بجلاء وجه الخلاف بين الإخوان والداعين إلى الوطنية فيذكر "أما وجه الخلاف بيننا وبينهم فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وطن عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم". لقد حدد البنا موقف الإخوان بوضوح من الوحدة القومية والوحدة العربية والوحدة الإسلامية، فقد أوضح "أن الإخوان المسلمين يحترمون قوميتهم الخاصة باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود، ولا يرون بأسًا بأن يعمل كل إنسان لوطنه، وأن يقدمه في الوطن على سواه، ثم هم بعد ذلك يؤيدون الوحدة العربية باعتبارها الحلقة الثانية في النهوض، ثم هم يعملون للجامعة الإسلامية باعتبارها السياج الكامل للوطن الإسلامي العام، ولي أن أقول بعد هذا: إن الإخوان يريدون الخير للعالم كله، فهم ينادون بالوحدة العالمية لأن هذا هو مرمى الإسلام وهدفه ومعنى قول الله تبارك وتعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107). د/ صفوت حسين مدرس التاريخ الحديث والمعاصر كلية التربية – جامعة دمنهور