خطاب الرئيس مبارك أول أمس كان واضح الدلالة على أن القيادة السياسية في مصر فاض بها الكيل من التحرش الطائفي للكنيسة المصرية بالدولة وبالمجتمع والأغلبية المسلمة ، حتى وصل الأمر إلى تجاوز خطوط حمراء لا يقبل أي مسؤول مصري تجاوزها مهما تساهل ، للمرة الأولى يتحدث الرئيس عن أن الدولة لن تتسامح مع التجاوزات "من الطرفين" وستكون أكثر حزما مع من يهدد الوحدة الوطنية من "الطرفين" ، كررها مبارك في صيغ مختلفة ، في إشارة اتهام صريحة إلى الجانب المسيحي بأنه يمارس سلوكيات تهدد الوحدة الوطنية وأنه سوف يتحمل عواقب المسؤولية هو الآخر عن التوترات التي شهدها المجتمع المصري مؤخرا ، وأهمية هذا الكلام أنه يأتي من القائد المصري الأكثر تدليلا للكنيسة المصرية وقياداتها ، والرئيس الأكثر مجاملة لشركاء الوطن في مطالب يستحيل أن تتقدم بها أقلية مماثلة في أي مكان من العالم ، والرئيس الأكثر تساهلا في حقوق "الدولة" وهيبتها في مواقف عديدة أعطت انطباعا بأن الكنيسة تتصرف وكأنها دولة موازية ولها سلطة مستقلة داخل مصر ، فاض الكيل إذن بالرئيس مبارك ، وربما وصل إلى قناعته أخيرا أنه من المحال أن يرضي هذا الاستنزاف الطائفي المستمر والذي لا تبدو له نهاية ، والمؤكد أنه أدرك ، ولو متأخرا ، أن هذا التدليل المتوالي قد فهم خطأ من الكنيسة المصرية ، وربما كان هو الذي يعرض الوحدة الوطنية للخطر وهو الذي يؤسس للفتنة ، لأن الغالبية العظمى من المصريين بدأوا يستشعرون أنهم غرباء في وطنهم ، كذلك لا يمكن أن تكون التطورات الأخيرة التي تحدث في مصر بعيدة عن رصد أجهزة الدولة ومؤسساتها المعنية ، من تحول رأس المال المسيحي وملياراته من عالم البيزنس إلى عالم التلاعب بوحدة الوطن والتأسيس لنفوذ وهيمنة سياسية تتوسد الإعلام "المستأجر" سلاحا لفرض سلطة الأقلية على القرار السياسي والأمني وعلى الوعي الشعبي كذلك ، وقد وصل الحال ببعض أقباط المهجر أن طالبوا مبارك نفسه بأن يتنازل عن السلطة لصالح الملياردير نجيب ساويرس ، وأمهلوه شهرا وإلا تحمل العواقب ، وقد يكون هذا الكلام مثيرا للسخرية في عبثيته ، ولكنه مؤشر على أجواء "الغرور" الجديدة التي فجرها نفوذ المال القبطي وتحوله إلى مال طائفي خطير ، أيضا لم يكن ليغيب عن رصد المؤسسات والأجهزة المعنية في مصر أن المظاهرات "الممنهجة" والمرتبة في عواصم أوربية وأمريكية يقودها ممثلوا البابا شنودة شخصيا وبشكل علني ، كانت بتوجيه ودعم من الكنيسة المصرية وقياداتها في مصر ، ورأى الجميع ما هي الشعارات التي رفعتها تلك التظاهرات التي حركتها الكنيسة المصرية ، وأخطرها المطالب بالتدخل الدولي في مصر وفرض الوصاية أو التهديد بالغزو العسكري ، وعندما تصدر مثل هذه الدعاوى في مظاهرات رتبت لها الكنيسة المصرية وقياداتها فإن الأمر يصبح تلاعبا أكثر من خطير بالأمن القومي ، وأتصور أن رسالة الرئيس مبارك لن تكون كلامية فقط ، وأن هناك إجراءات سيتم اتخاذها في المرحلة المقبلة للجم هذا الهوس الطائفي غير المسؤول ، وأن قانون الطوارئ لن يتوقف تطبيقه على الجانب المسلم فقط ، حتى لو وصل الأمر إلى حد تطبيقه على رجال دين ، وعلى كل حال ، مصر ليست كيانا هشا حتى يكون معرضا للفتنة الطائفية بما تعنيه الفتنة ، وحتى إذا ضعفت الدولة فإن المجتمع ليس ضعيفا ، وهناك توازنات اجتماعية وخبرات إنسانية وتاريخية تجعل من المجتمع المصري محصنا من الفتن التي تجتاح أمما أخرى وتذهب فيها أرواح مئات الآلاف من البشر وتستباح فيها مدنا بكاملها ويهجر على أثرها الملايين ، مصر تختلف ، والحمقى وحدهم الذين لا يدركون هذه الحقيقة ، والذين ظنوا أن مصر "الدولة" يمكن أن تستنزف طائفيا إلى ما لا نهاية . [email protected]