اسمها إكرام، حلمها فى أن تصبح ناشطة سياسية تتحدث عنها وسائل الإعلام، وكأنها وظيفة تتمنى الحصول عليها بكل ما أوتيت من قوة. شاركت في الحراك السياسي الذي يجري منذ الثورة بعفويتها، رغم أنها أصبحت لا تؤمن بوجود أى إيجابيات للتغيير الموعود. لا تروقها كثير من مصطلحات السياسيين العائمة، وتسخر من غالبية تعليقاتهم وترفضها. تعشق العدالة في أبهى صورها، وتكره الظلم والفوضى السياسية التي تجري. أيدت الثورة منذ أيامها الأولى، رغم أنها لم تنزل أي ميدان من ميادين التحرير المنتشرة عبر أرجاء الوطن. كونها تعيش بعيدًا عن مناطق الأحداث، في أقصى صعيد مصر، في الأقصر. تعرفت على الكثير من تفاصيل الثورة والاحتجاجات عبر المدن والمحافظات المصرية كافة، من خلال السماع والمشاهدة التليفزيونية. فعبر الفضائيات تعلمت السياسة والثورة، وانزعجت من حجم الظلم والفساد الذي يتكشف أمامها كل يوم. تختلط عليها كثير من الأفكار والرؤى، فتنزعج من موجة الاستهتار السائدة بالمشاكل الحقيقية التي يعانيها المواطنون. مشكلة إكرام، أنها تتمنى أن لو كانت تقاليد الصعيد الصارمة، تسمح لها بالسفر والمشاركة في فعاليات الثورة، وتقيم فى ميدان التحرير. وتتمنى أن لو قدمت خدماتها للمتظاهرين، وكانت إحدى الناشطات السياسيات، تهتف وتحتج وترفض وتنقل الجرحى وتشارك فى إسعاف المتظاهرين وتضمد جراحهم. مفهوم إكرام عن التغيير، هو أن تلمسه على وجوه الناس فى قريتها. لذا، فإن أكثر ما يزعجها هم لصوص الثورة، سواء كانوا أحزابًا أم ائتلافات أو نظم حاكمة. انبهرت بالناشطات عبر الفضائيات وشاركتهن في الأحلام، لكن اختلفت معهن في النتائج. لكم هو غريب هذا الذي تفعله تلك الناشطة من منازلهم!. فهى تخرج كل يوم 10 و20 من كل شهر ميلادى، لتتعرف على تفاصيل المشكلات التي تواجه أصحاب المعاشات والأسر التي تعيش على الضمان الاجتماعي. لا يعجبها أن تحصل سيدة على ضمان 80 جنيهًا، وتدفع فاتورة كهرباء قدرها 120 جنيهًا. هنا تمارس إكرام دورها في التسخين، بطريقتها البسيطة في التحريض، من خلال تركيزها على إبراز عيوب الحكومة والنظام، فيحدث مما تتمناه من تعبير جمهورها القليل عن السخط والتذمر. مشكلتها أنها انتخبت مرسي ثم عادت ورفضته، اقتناعًا بأنه لن يستطيع أن يفعل شيئًا للغلابة والفقراء، وأنه مشغول بالخطب والكلام فقط. ورغم أنها غير متعلمة، إلا أن انتقادها السياسي لاذع، وحديثها عن حال البلد، وما هو مطلوب تنفيذه فى اللحظة الراهنة، متدفق ودون انقطاع. لا يخدعها كثير مما تراه على الشاشات، وتعتبره نوعًا من الأونطة للضحك على الذقون. تعدد لك أسماء كثير من الناشطات، وترى أنها لا تقل عنهن فى شيء. وأن المجهود الذي تبذله أكثر مما تبذله فتيات الإنترنت والفضائيات بكثير. وترى أن ناشطات القاهرة والإسكندرية هن اللاتي يحظين بالاهتمام والرعاية. وأنها لا تشبه تلك اللاتي تقتصر مهمتهن على التجوال والتريض عبر الميادين وفقط، بل تؤمن بضرورة تحريك الجماهير باتجاه الرفض والمطالبة بالحقوق. على مستوى القرية، تعرف إكرام كل تفاصيل الناس ومشاكلهم، فتقوم بجمع أموال شهرية يتشارك فيها البعض، رغبة في حل مشكلاتهم وعلاج أزماتهم. غير أن حلم الناشطة السياسية قد تخلق في عقلها بعد قيام الثورة مباشرة. لذا خرجت مرات كثيرة، لتحرض نساء القرية للخروج والتعبير عن رفضهن للظلم والجهل والفقر والمرض. تراها فرصة جيدة، ليسمع ساسة القاهرة مشاكل الريف وأزماته. نساء القرية يعرفنها جيدًا، كونها تحرضهن كثيرًا على الخروج للطرق العامة، وإعلان الاحتجاج ضد ما يحدث من تهميش للصعيد، ونسيان مشاكله. لدرجة أنها فى إحدى المرات، حرضت على قطع طريق القاهرة -أسوان العام. تتصل إكرام فى كل مرة، لتخبرني بضرورة مساعدتها في مهمتها، والكتابة عن الثورة التي تعد لها، وتطالبني بإرسال مندوبي الصحف الذين أعرفهم في الأقصر، لتغطية الفعاليات المنتظرة. لكن سرعان ما تعود في كلامها، بعد موجه اليأس التي تعتريها من عدم فهم نساء قريتها لما تعده ناشطتهم. تقطع القرية من البحر إلى الجبل مشيًا على الأقدام، للحديث مع النساء واقناعهن بثورتها المنتظرة. وحينما تمل من الحديث عن الثورة، تجهر بأمنياتها في أن تصبح سيدة أعمال، ليكون لديها الكثير من الأموال لتنفق على الغلابة والمساكين. تفكر في المشروعات لمسئولي جمعية خدمة المجتمع، وتنجح أفكارها. وبحكم قرابتي بها تنتقدني، أشد أنواع الانتقاد. لأني لم أسلط الضوء على مشاكل القرية وما يعانيه الصعيد بأكمله من مظالم. وترجوني أن تلقى مشاكل الناس العاديين في كتاباتي، مزيدًا من الاهتمام. لاشك أن نموذج إكرام، له نظير وشبيه في عشرات المدن والقرى والنجوع المصرية. فهذا النموذج المنتشر بكثرة، والذي يبحث عن التاريخ أينما يكون، قد يصادف من يكتب عنه ويبرزه، وقد لا يصادف. غير أن الكتابة لا تستهدف الشخصية موضوع الحديث نفسها، بقدر ما تتعلق بما يمثله هذا النمط من دلائل وإشارات. فهذا النموذج الذي لا يرى في شخصه محورًا للتغيير، بقدر ما يرى ضرورة إشراك مجتمعه في الحدث، هو النموذج الذي يريد اقتناص لحظة التغيير والمشاركة فيها بأي شكل كان. وبالتالي هو لا يقبل من النظام إلا بهدف معلن وظاهر، يكون مؤثرًا بصورة مباشرة في حياة الناس ومتطلباتهم. وعلى هذا، فإن أي خطاب مغاير لتلك اللغة التي يفهمها، إنما هو حرث في بحر. فقد تختلط عليه الرؤى حول الأفكار والعلاقات التي تنتجها الثورات، لكن لا تختلط عليه لغة المكاسب العامة والشعبية أبدًا.