هذا "التحفظ" الذي ميّز جيل خمسينيات القرن الماضي لم يعفه من مسؤلية التأسيس ، لنوع من الكتابات تعتمد على " لغة الجسد" ، و اطلاق حريته في تلبية شهواته ، ووصف مواقعة الذكر للأنثى من جهة ومواضع العفة لديهما من جهة أخرى بلا حياء ، و هو منحى يترتب عليه بالتبعية ، الاستهزاء و الاستخفاف ، بكل ما يعتبره معوقا من معوقات التعبير عنه ، و على رأسها التقاليد الاجتماعية المحافظة ، و الثقافة الدينية الحاضنة لها . ففي "بين القصرين" التي كتبها نجيب محفوظ عام 1956 يصف الأخير "ياسين" ، و هو أحد شخصيات الرواية ، عندما لمح جورب "زنوبة" و هي واحدة من الغانيات اللاتي حشرهن محفوظ روايته معقودا فوق الركبة فراح يزعق داخليا: " آه لو تغوص به الأريكة في الأرض مترا .. رباه .. إن وجهها أسمر .. و لون لحمها المكنون أبيض ... أو شديد الميل للبياض .. فكيف يكون الورك ؟ و كيف يكون البطن ! يا هوه .. يا لطيف ... (...) و ما خفي كان أعظم : إني أدرك الآن لماذا يصلي بعض الناس ركعتين قبل أن يبني بعروسه ... أليست هذه قبة ؟ بلى ، و تحت القبة شيخ و إني لمجذوب من مجاذيب من مجاذيب هذا الشيخ ... يا هوه ... يا عدوي " و إذا اتبعنا هنا خطى "البنيوية" ، و شرعنا في " ملء الفراغات و انطاق الصوامت" في هذا النص ، نلحظ أن محفوظ عندما أطلق العنان لأحد شخوص روايته في وصف " جسد زنوبة" يحشر "الصلاة" و هي تعبير عن استكمال دورة "الطهارة" عند المسلم ، في هذا المشهد "الفاحش" ، ثم يتسع المشهد الذي لصقت الصلاة بسياقه العام ليضيف إلى مفرداته الدالة على "الفحشية" ، مفردات اخرى دالة على "الشركية" ، مثل "تحت القبة شيخ ، مجذوب من المجاذيب ، ويا هوه .. يا عدوي" ، و هي مفردات يستحضر ذكرها المناخ "الخرافي الأسطوري" ، و طقوس الجهلاء من أهل البدع فيما يسمى بريف مصر و قراها و بعض مدنها ب"الموالد" . إن هذا المشهد ( ياسين و هو يسترق النظر لجسد زنوبة ) كان ممارسة "سرية" و هو عمل يستبطن بوعي او بغير وعي كراهية ل" الشرعية" ، التي يراها أي نشاط "سري" بأنها قيد على خروجها إلى "العلانية" ، و من هنا جاء النيل من "الصلاة" ، باعتبارها دالة على "الشرعية الدينية" ، التي تنظم في عالمنا الإسلامي "علاقات الجسد". و رغم أنه في سبعينيات القرن الماضي ، ومع ما لاقته الحداثة من تبني و ترحاب و دعاية ، قد تنامت النظرة إلى هذه "القوالب الفنية" ، باعتبارها انساقا فنية تنتمي ، إلى منظومة التقاليد القديمة ، التي تقتضي الحداثة تجاوزها بل و تدميرها ، إلا أن الأعمال الروائية التي رضعت من ثدي الحداثة واتخذت من "الجسد" قوام موضوعها الأساسي أبقت على هذه الكراهية ل"الشرعية الدينية" ، بل و اتخذتها هدفا انتوت انجازه . و لنتأمل هذا النص للقاصة الكويتية عالية شعيب ، في قصتها القصيرة " ملح على ثدي يرتعش" ، تروي بين سطورها تفاصيل علاقة سحاقية : "بدت بأنفها الصغير المنتصب وشعرها القصير وكأنها قد قررت ولم يعد يعنيها الأمر. تخيّلت ثدي مقابل ثدي وأصبع مقابل أصبع وفرج مقابل فرج ؟ تفجّر في رأسها نداء المؤذن العجوز للصلاة هناك، حيث تكون في فراشها حينئذ تكتم صراخ بركان الفخذين حين يلوّن الغطاء الورديّ بحممه فتتأوّه الستائر الرشيقة، تلتفّ السماء ببوشيّة تصير لها النجوم نوافذ" في هذا النص لم تكن المفردات التي استخدمتها عالية شعيب ، ذات دلالة رمزية ملتبسة ، و إنما كانت تفوح صراحة و مجاهرة ، إذ أوردت كلمتي ، "المؤذن" و "الصلاة" ، في الوقت الذي شرع فيه الجسد ممارسة حريته . فالكلمتان لهما حمولتهما الرمزية الدالة على "الدين" ، و كلمة "العجوز" التي جاءت نعتا للمؤذن ، نشتم منها رائحة الإيحاء إلى الماضوية و العجز و عدم القدرة على التأثير ، و رغم ذلك يستجيب الجسد (لهذا الماضي العجوز) و يكتم رغبته في استكمال التجربة . بعض المفردات افصحت عن هذه "الإستجابة" ، لم تكن صادرة عن نفس "آوابة" ، فالأخيرة لم تكن تضمر أية احترام او توقير للمؤذن " تفجّر في رأسها نداء المؤذن العجوز للصلاة" ، فالجملة "تفجر في رأسها" ، هي البديل الرمزي عن " الصداع " في اكثر مراحله إيلاما ، ف"الاستجابة" جاءت تلقائية ، تعبيرا عن الشعور بالخوف من افتضاح الفعل ، في مجتمع يستقي ثقافته ، من مرجعية تحرم السحاق. فالنص في مجمله يضمر إدانته ، للخطاب الديني الإسلامي ، و يعتبره خطابا قمعيا ، يقمع حرية الجسد في ممارسة مشاعته الجنسية ، و لذا عمدت إلى الإساءة إليه ، عندما شرعت في النيل منه ، و ذلك بنقض طهارة "المؤذن" ، بحشره وسط مشهد سحاقي يبعث على الغثيان "تخيّلت ثدي مقابل ثدي وأصبع مقابل أصبع وفرج مقابل فرج ؟ تفجّر في رأسها نداء المؤذن العجوز للصلاة هناك" وللحديث بقية السبت القادم إن شاء الله تعالى [email protected]