يعرف المبتدئون من دارسي القانون إن القاعدة القانونية ليست قدسًا مقدسًا وإنما هي في جوهرها تهدف إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية ووضع القواعد والأسس التي تهدف إلى ترسيخ بناء مكين لحماية مقدار الناس وحماية المال العام، وإن الصراع بين القانون بوصفة وجهًا من وجوه الخير وأصحاب الجريمة قديم ومتجدد فما أن يسد القانون ثغرة حتى يسارع الأشرار إلى فتحها من جديد، وحين يكون القانون أداة في يد السلطة الحاكمة فإنه يصبح أداة للاستبداد والعسف لأنه في هذه الحالة يعبر عن مصالح الفئة المسيطرة ويسعون من خلاله إلى ضبط منظومة قانونية وقضائية تحقق في النهاية مصالحها، وحين تقوم الثورات فإنها تكون انسلاخًا من القيود كافة حتى منها ما يتصل بالقانون ومن ثم فإن شعار سيادة القانون لا يستمد قيمته إلا إذا كان القانون بالفعل معبرًا عن المصالح لغالبية عموم الناس، ويصبح الإفراط من جانب السلطة المستبدة في استخدام عبارات سيادة القانون شائعًا ويكون الاحتفال هنا بشكل القانون وليس بجوهره. واللافت في الأمر أن القضاة بوصفهم في الأصل مواطنين فإنهم أول الناس الذين يرون عورات النصوص القانونية حين تشتبك مع الواقع فيعمدون إلى محاولة تخفيف هذه العيوب، إلا أن هذا الصنف من القضاة هم هؤلاء الذين تتسع مداركهم ويفهمون المرمى من النص القانوني، ونذكر عبارة شائعة كان يوجهها المحاضرون لرجال النيابة الجدد بأنه بقدر رسوخك في غير علوم القانون يكون رسوخك في القانون، ثمة طائفة أخرى تطبق النص بحالته وهم فئة كبرى والمتتبع لتاريخ التغيير في مصر يجد أن الثورات كافة التي مرت بمصر قد اشترك فيها قضاة ممن مارسوا العمل أو كان تكوينهم هو هذا الأمر، فانظر إلى الإمام محمد عبده وكان قاضيًا له سهم بارز في الثورة العرابية وانظر إلى سعد زغلول كان قائدًا لثورة 19 وكان قاضيًا، ومحمد فريد كان وكيلًا للنائب العام وحين ضاق ذرعًا بالنظام القضائي القائم آنذاك ووجد فيه عبئًا وتناقضًا مع حسه الوطني فقدم استقالته وانخرط في العمل الوطني. وقراءه في تاريخ ثورة 1952 تجد القاضي أحمد فؤاد أفرد له خالد محيي الدين جانبًا كبيرًا في مذكراته قام بسهم وافرد في هذه الثورة، وانظر إلى ما أداه سليمان حافظ من أدوار في تمكين ثورة 1952، وفي التاريخ المصري نجد قاضي القضاة العز بن عبد السلام له سهم بارز في قيادة المقاومة ضد التتار مثل هذه النماذج وغيرها ليست بالكثيرة، ولو كان القانون والنظام القضائي قدسًا مقدسًا لتم تخطئتهم ووصفهم بالخروج على القانون وهذا أمر غير صحيح إلا أن هذه الفئة نادرة لأنهم علموا عيوب النظام القانوني القائم ولم يجدوا حلًا إلا في الخروج على النظام القانوني القائم. وخلاصة ما تقدم أن الثورة ليست عملًا مدانًا بدليل أن دارسي القانون ومنهم قضاة خرجوا على النظام حين وجدوه غير محقق للغاية الهامة وهى مصالح الناس، نقول هذا الذي تقدم وقد قامت ثورة 25 يناير2011 وأثبتت أن ثمة جرائم نفس ومال ارتكبها النظام السابق إلا أنهم حوكموا بالقواعد القانونية وبذات النظام القضائي الذي قامت الثورة عليه، وهو أمر غير منطقي فكان هذا الذي نراه من عدم إدانة أحد وتعثر المحاسبة، وكان يتعين أن يتم إصدار تشريعات تناسب هذه الحالة لأن محاكمة النظام السابق بقوانينه أمر غير مسبوق ولا بد أن يؤدي إلى ذات النتيجة.. والسؤال لماذا هذا التعثر؟ إنه في نظرنا يرجع إلى عدم قيام المشرع بدوره بوضع القوانين المنظمة للسلطة القضائية وما ارتبط بها من قوانين حتى يتم تهيئة البيئة المناسبة للقاضي ليحكم على هديها لأن القاعدة القانونية ينبغي أن تعبر عن صالح المجموع، لأنه لو كان النظام القانوني سليمًا فلماذا ثار عليه الناس؟! إذًا لماذا لا يبادر القائمون على الأمر من السلطة الحاكمة بإعداد تشريعا تتحقق هذا الهدف وعلى رأسها قانون السلطة التشريعية الذي يمتلئ بالثقوب التي تمكن السلطة التنفيذية من اختراقه؟ وهذا شاهد عليه القانون ذاته من منحه فرصة تعيين رؤساء المحاكم وتبعية التفتيش القضائي للسلطة التنفيذية وغيرهما الكثير، بل إن قانون السلطة القضائية وغيره من قوانين الهيئات القضائية الأخرى لم يواكب أي منهم الدستور الحالي بل ويتناقض معه، وانظر معي الدستور يحظر الندب للقضاة إلا إذا كان كليًا وما زال الندب الجزئي على حاله فالدستور يبيح المنع من السفر بوصفه أمرًا قضائيًا وترى المحكمة الإدارية العليا أنه أمر إداري يخضع لرقابتها مع أنه أمر قضائي وغير ذلك الكثير، بل إن المشرع لو كان قد قام بتعديل قانون السلطة القضائية على أسس عامة ومجردة لكان قد حقق غرضه إلا أن الهروب من وضع تشريع متكامل وشخصنة التعديلات القانونية أدى ذلك كله إلى حدوث العثرات والمشاكل بين السلطات. بل إن من القوانين القائمة ما لم يُفعَّل، ونسأل لماذا لم يفعَّل حتى الآن قانون إفساد الحياة السياسية؟ أليس هذا لغزًا؟! إن الإخفاق من جانب السلطة الجديدة (مع العلم أن هناك إدارة تشريع بوزارة العدل) في وضع تشريعات كقانون السلطة القضائية وتنظيم الإعلام والمنع من السفر وغيرها من القوانين الكثير مما يتصل بالعدالة الانتقالية والقوانين التي تغير البنية الاقتصادية وتوزيع الثروات، هو الذي أدى إلى هذا الانغلاق الذي نعانيه وهذا البطء من جانب القائمين على الأمر ووضع التشريعات بوصفها معبرة عن الحالة الجديدة، هو الذي أدى إلى هذه العثرات وأن التراخي في وضع هذه التشريعات وعدم الحسم والإقدام فيها تحت مقولة الحوار المجتمعي وأنها ستغضب البعض فهو أمر لا يعرفه المنطق وأدى إلى هذا الفشل الذريع، فالتغيير حسب الثورات لا يعرف إلا الحلول الحاسمة والتردد يفضى إلى هذا الفشل وانظر إلى التاريخ الإسلامي ينبغي أن يعيه من بيده مقاليد الأمر حسب توجهاته، ألم يكن أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أول من حسم الأمر في حروب الردة ومكن للإسلام ولو تصور الناس لو لم يتخذ هذا الموقف ماذا سيكون الأمر؟ والثورة الإيرانية ألم يطلع أحد على تاريخها وكيفية استتباب الأمر لها؟ وثورة 1952 وبدايتها في وضع تشريعات حاسمة تمهد الأمر الجديد أليس بفضل هذه التشريعات وعدم اللجوء للمنظومة القانونية العادية هو الذي مكن لها من الإقدام على التغيير المنشود؟ وإذا كان بعض أعضاء المنظومة القضائية معادين للتغيير (وهذا أمر طبيعي) فإن القائمين على الأمر لم يوفروا المناخ المناسب للقضاة للعمل على تحقيق الأهداف المنشودة ولم يتم توفير المناخ الملائم للقضاة سواء في التحقيق أو المحاكمة حتى يتم عن طريق الوسيلة القانونية الحصول على الحقوق لأن تلك هي غاية التشريع فإذا كان التشريع لم يصدر حتى الآن رغم تمكن القائم على الأمر منه سواء وقت أن كان التشريع في يده أو عن طريق أدواته التي تعد التشريعات أو عن طريق ممثله في المجالس التشريعية، فكان بيده مجلس الشعب لشهور ومجلس الشورى معه وكذلك رأس السلطة التنفيذية فإن التعثر سيظل ملازمًا لنا وأنه إذا أراد المرء حسمًا فلا ينبغي أن ينظر إلى رد فعل الآخرين ورضائهم وسخطهم، فطالما كان التشريع ملبيًا لرغبة المجموعة فإنه صحيح وتلك بديهيات القاعدة القانونية ولا ينبغي أن يتردد القائم على الأمر لأنه لا معنى أن تترك معسكر المصالح قائمًا وتتلقى ضربة منه على خدك الأيمن فتدير له الأيسر، فالحسم فرض ولو كنّا له كارهين وهو مكتوب علينا كالقتال كره لنا ولكن ينبغي أن نسلك طريقه. الحسم هو المطلوب وإلا سترون شعبًا يشعر باليتم وقد ضاعت الآمال الكبرى التي نشأت يوم 25 يناير2011، فاصنعوا مناخًا ملائمًا أما وإنكم لم تصنعوه فلا تلوموا إلا أنفسكم والتاريخ عليكم من الشاهدين.