"الحداثة" و كما اورده واحد من أبرز نقاد الحداثة في العالم العربي و هو د عبد العزيز حمودة رحمه الله تعني باختصار: " تدمير عمد النظام القديم" و بمعنى آخر و كما هو ثابت في ادبيات الحداثيين العرب ، فإنها تعني: "القطيعة مع الماضي" . و يرى حداثي غربي آخر و هو "س.م بورا " أن الحداثة لم تعد تكتفي بمقولة "تجاوز الماضي" ، و إنما باتت تذهب إلى القول بأن "الماضي خانق و لا بد أن يقذف به من فوق باخرة الحداثة " و في دراسته حول "الإبهام في شعر الحداثة" و في سياق مقاربته بين مفهومي الحداثة و ما بعد الحداثة ، يقول د.عبد الرحمن محمد القاعود: "ما بعد الحداثة ، مثل الحداثة ، لا تعفّ عن محاولة تدمير الماضي. و إذا تعذر هذا اقترحت زيارته بسخرية و بتحليل مضمون هذه المقولات نلحظ أنها ، تحمل مفردات دالة على أن الحداثة تيار يدعو إلى ممارسة العنف و العداء و الكراهية ( لاحظ كلمات مثل تدمير ، قطيعة ، يقذف ، خانق ، سخرية .. ) ضد هوية الامة و تراثها الديني و الثقافي و بكل ما يربطها بأصولها الحضارية ( لاحظ كلمات مثل : النظام القديم ، الماضي ..)! و في هذا السياق أيضا نستعير هذه الشهادة من الحداثي الغربي " كريستوفر بتلر " عندما يلخص الحداثه بقوله: إنها تضع " ما هو وهم و ما هو حقيقة على قدم المساواة " و إنها تفقد " الثقة في كل نظام أو فلسفة أو مبدأ أخلاقي أو عقيدة دينية" .. " و لا تقيم وزنا لتقاليد سابقة .. أو لأعراف أدبية قارة .. ولا تلبي رغبات فطرية متواترة " فالحداثة لا تعترف بأية اعتبارات تميّز "الحقائق" عن "الاساطير" ، و هي نقطة ارتكاز ثابتة ترتب عليها سلسلة من المواقف المبدئية تتمحور في مجملها حول تقديم تفسيرات لا غاية لها إلا اهدار أية هيبة أو وقار أو قداسة ، للعقيدة الدينية و مطاردة تجلياتها الروحية و الأخلاقية ، بعتبارها معطى ( إنساني خرافي ) يجب مجابهته كأي اختراع إنساني ! و لعل ذلك هو ما افصح عنه " شكري عياد" ، عندما لفت إلى أن الحداثة تستهدف " أنسنة الدين " أي إرجاع الدين إلى الإنسان و إحلال الأساطير محل الدين.. و ارجاع المقدسات و الغيبيات إلى جسم الإنسان " و هو نفس المعنى الذي تؤكده الحداثية العربية "خالدة سعيد" في مقال لها قالت فيه : "إذا كانت الحداثة حركة تصدعات و انزياحات معرفية قيمية فإن واحدا من أهم الانزياحيات و أبلغها هو نقل حقل المقدس و الأسراري في مجال العلاقات و القيم الدينية و الماضوية إلى مجال الإنسان و التجربة و المعيش " ربما يوحي هذا الكلام الذي كتبته خالدة سعيد في مطلع عقد التسعينيات من القرن الماضي (العشرين) إلى أن "أنسنة الدين" في العالم العربي ، بدأت مع هذا التاريخ ،أو مع تعلق بعض النخب الثقافية العربية ،بمفاهيم الحداثة الغربية ، و الاعتقاد ب"وحدانيتها" واتخاذها "صنما" و الشهادة بأنه " لا شريك له " ، في إعادة بناء الأمة ، بعد فترة الانكسار التي تلت هزيمة عام 1976 ، و سقوط الحلم العربي . و إنما أنسنة الدين و القرآن الكريم تحديدا ، بدأ قبل تداول مصطلح الحداثة ، بخمسة عقود على الأقل ، بدأ مع " في الشعر الجاهلي " لطه حسين عام 1926 ، و " الفن القصصي في القرآن الكريم " ل محمد خلف الله عام 1946 ، و "أصوات المد في التجويد القرآني " ل تغريد عنبر عام 1965 . و عندما انحسر هذا الاتجاه ، مع صعود و تنامي المد الاسلامي الحركي ، منذ منتصف السبعينيات ، اعيد احيائه تحت لافتات أخرى ، كانت "الحداثة" أكثرها تداولا ، لقمع أية قوى أو تيارات مناهضة لها ، لا سيما بعد أن نظمت حملات اعلامية ضخمة ، استهدفت شطر الناس في العالم العربي إلى فسطاطين : "حداثي" و "ظلامي" ، و هي قسمة كان الهدف منها إرهاب خصوم "الحداثة " ، بنسختها التخريبية لكل ما هو إسلامي. و كان أبرز تجليات تجديد فكرة "أنسنة الدين" و باسم هذا المصطلح الجديد (الحداثة) بعد انقضاء ما يزيد عن ثلاثة عقود من توقفها المؤقت عند بعض المحطات كانت مجموعة دراسات د نصر حامد ابو زيد ، المدرس بكلية آداب القاهرة ، التي تقدم بها في مايو من عام 1992 ، ل"اللجنة العلمية الدائمة"بالجامعة لنيل درجة "الأستاذ" ، و أثارت في حينها معركة كبيرة امتدت من عام 1992 إلى عام 1995 . ونلتقي السبت القادم إن شاء الله لاستكمال هذه المفاهيم. [email protected]