الاستفتاء على حظر بناء المآذن في سويسرا، مثل بداية لأزمة تواجه الديمقراطية الغربية، وتواجه المجتمعات الغربية عموما. فالليبرالية الغربية كنظام سياسي تقوم على عدد من الأسس والركائز، ومنها حرية العبادة والاعتقاد. وعندما يجرى استفتاء بين عامة الناس حول حق من حقوق فئة، ثم تصوت الأغلبية على حرمان فئة من حق من حقوقها، فإن ذلك يعني ضمنا أن الحقوق أصبحت محل تساؤل، وقابلة لإعادة النظر، وهو ما يمس الليبرالية الغربية في جوهرها، ويجعل أسس تلك الليبرالية الغربية معرضة للتغير تبعا لتغير موقف الناس من المنظومة الليبرالية. فالاستفتاء لم يمس فقط حق من حقوق المسلمين، ولكنه مس قاعدة من قواعد الليبرالية الغربية، وأصبحت نتيجة الاستفتاء تمثل تغييرا مباشرا للأسس التي يقوم عليها مبدأ حقوق الإنسان حسب الفهم الغربي. كما أن التدخل في بناء أماكن العبادة، يمثل تجاوزا للعلمانية الغربية نفسها. فالعلمانية قامت على إخراج الدين من المجال العام، وتحرير السياسة والنظام السياسي كله من مرجعية الدين، ولكن العلمانية الغربية جعلت الدين جزءا من المجال الفردي، ويخضع لقواعد الحرية الفردية. ولكن الاستفتاء على مظهر من مظاهر أماكن العبادة، والمتمثل في مآذن المسجد، يمس مبدأ الحرية الفردية. فهل وصل الغرب لمرحلة الخروج من الليبرالية كمنظومة سياسية حاكمة؟ فالمتابع لما يحدث في الغرب، يجد الكثير من النقاش حول حقوق المهاجرين، وحول التواجد الإسلامي في الغرب، وأيضا حول المظاهر الدالة على الإسلام، مثل النقاب أو الحجاب، وأيضا المآذن. وتلك المناقشات يتبعها الجدل حول الهوية الوطنية، كما يحدث في فرنسا. حيث يوجد تيار واضح في الغرب، يعرف الهوية الوطنية بصورة قومية متشددة، تعيد للأذهان صورة التيارات القومية المتطرفة والعنصرية، والتي عرفها الغرب عبر تاريخه الحديث، ولم تختفي تماما، وإن كانت تراجعت لفترة من الزمن، لصالح سيادة الليبرالية الغربية. وبهذا يتشكل مسار في الغرب، يعيد تعريف الحقوق داخل إطار القومية، مما يربط بين حقوق الفرد وبين انتمائه للقومية السائدة في دولة ما. وعليه يصبح الفرد المتمتع بكل الحقوق، هو الذي ينتمي للقومية الأصلية، أما من ينتمي لقومية مخالفة، فإنه لا يتمتع بكل حقوقه الفردية، بل تقتصر حقوقه في نطاق لا يبرز اختلافه القومي. ورغم أن الليبرالية الغربية قامت على أساس قبول الآخر بشرط التزامه الكامل بالنظام السائد، وتمتعه بالتميز في النطاق الفردي، إلا أن القومية الغربية المتطرفة تعيد تعريف حقوق المهاجرين والمختلفين، لتصبح حقوقهم مرتبطة بالتزامهم الكامل بالنظام العام، وأيضا عدم إبرازهم لما يميزهم عن الآخرين. فيقع المهاجرين تحت عملية سيطرة حضارية وثقافية ودينية، حتى لا تظهر الجالية المهاجرة بصورة مخالفة للنمط السائد في المجتمع. هنا تصبح الديمقراطية أمام امتحان صعب، ربما يكون واحدا من المراحل التي تؤرخ لتغير النظام الديمقراطي، أو ربما تؤرخ لنهايته. فمن خلال الممارسة الديمقراطية، تبدأ القرارات تتوالى في الغرب ضد الحرية الفردية، وهو ما يعني أن الليبرالية كنظام سياسي، تتغير من خلال الانتخابات. والأصل في النظام الديمقراطي، أنه ينظم الممارسة السياسية بعد قيام نظام سياسي راسخ، ولكن ما يحدث الآن، هو تغيير في النظام المستقر من خلال الممارسة الديمقراطية، مما سينتج عنه مشكلة تواجه الدول الغربية، فإذا استمرت في الممارسة الديمقراطية الحرة، فإن نظامها الليبرالي المستقر قد يتعرض لتغييرات مؤثرة، وإذا تدخلت الدول لمنع حدوث تغير في نظامها الليبرالي، فإنها سوف تحد من الممارسة الديمقراطية، مما يضع مصداقية النظام السياسي على المحك. والمشكلة الحقيقية تتمثل في أن الغرب يتغير، وقد بدأ التغير بطيئا منذ سنوات أو عقود، ومازال التغير بطيئا، ولكن تراكم التغييرات أصبح يؤثر على المشهد العام للغرب. فمن ناحية يتجه الغرب أكثر فأكثر إلى الاتجاه القومي العنصري، بحيث أصبح حضور هذا التوجه في الساحة السياسية أكثر بروزا. كما أن الغرب يتجه لإعادة تعريف هويته، وهو في هذه العملية يستعيد جذوره الدينية، ويستعيد هويته المسيحية. ومعنى هذا أن الطابع العلماني للدول الغربية، يمكن أن يلحق به قدرا من التأثر، بجانب تأثر النظام الليبرالي. وتلك التغييرات يمكن أن تتجمع بعد عدة عقود، لتصوغ مرحلة جديدة من التاريخ الغربي. والمشكلة تبرز بصورة أوضح، في التوجه القومي العنصري، الذي يربط القومية بالدين. فهذا التوجه يجهل هوية المجتمعات الغربية مرتبطة بالرجل الأبيض المسيحي، أو ذو الجذور المسيحية. وبهذا يعيد الغرب هويته التي تأسست في حقب تاريخية سابقة، ويبتعد عن الليبرالية العلمانية الشاملة، والتي بشر بها الغرب بوصفها نهاية التاريخ. وتلك حقيقة مهمة، فالغرب الذي بشر العالم بان الليبرالية العلمانية الغربية هي أفضل نظام وصل له، وأنها تمثل الحل الأخير للبشرية، هو نفسه يخرج الآن تدريجيا من تصوراته الليبرالية العلمانية الشاملة، ويتجه نحو وجهة جديدة، تتميز أكثر بالقومية العنصرية، واستعادة الدين، على الأقل كأساس للهوية التاريخية، وإن لم يكن كأساس للحياة والنظام. وإن كان المجتمع الأمريكي، يستعيد دور الدين بصورة واضحة، جعلت التيارات المسيحية السياسية في أمريكا تمثل قوة من أهم القوى المؤثرة على صنع السياسة الأمريكية. القضية إذن لا ترتبط بحظر المآذن فقط، بل ترتبط أيضا بأن الممارسة الديمقراطية في الغرب، أصبحت وسيلة لتغيير النظام العام السائد في الغرب، وترتبط أيضا بأن الغرب يتغير، وبالتالي فإن موقفه من العالم سوف يتغير. وربما تكون تلك الملامح معا، هي إرهاصات مرحلة تاريخية جديدة.