"نحن الأكثر عدلاً، الأفضل، الأجمل، ومن لا يفكر هكذا فليحذر، نحن سنقاطعه أو نرسله إلى الجحيم، ينبغي إلقاء الرعب في القلوب مرة كل بضعة أسابيع، ينبغي نثر التهديدات مرة كل بضعة أشهر، ومرة كل سنة أو سنتين ينبغي الخروج إلى حرب صغيرة أخرى، التعاون بين جهاز الأمن ووسائل الإعلام يضمن النجاح، وهكذا يمكن أن ننفض عن أنفسنا أي اتهام، هكذا يمكن مرة أخرى أن نوغل فيما نحبه أكثر من كل شيء آخر: أن نتظاهر بأننا الضحية، أن نشعر بأننا مهددون بخطر خارجي كبير". هذا بالضبط ما كتبته جريدة "هآرتس" الصهيونية يوم 5 نوفمبر الحالي، وهي العبارات التي تشرح بوضوح طريقة التفكير الإسرائيلية، والإستراتيجية الدائمة في مواجهة التحديات الخارجية، وهي الطريقة التي أثبتت نجاحًا واضحًا حتى الآن، ومن خلال فهم تلك العقلية يمكننا قراءة المواقف التي تتخذها إسرائيل، وبالتالي نتعلم كيف يفكر الآخر، ونستطيع مواجهة العدو بنفس السلاح. أرجو من حضراتكم قراءة المشهد من الزاوية الإسرائيلية، والتمعن فيما كتبته جريدة "يديعوت أحرونوت" في افتتاحيتها لنفس اليوم، عندما هنأت الجيش الإسرائيلي على النجاح الجارف الذي حققه في كشف سفينة السلاح التي تم توقيفها في البحر واتهام إيران بأنها تقف وراءها: "يا له من توقيت رائع.. في هذه الساعات بالذات، عندما تدير الجمعية العمومية للأمم المتحدة النقاش في تقرير "غولدستون"، تضع إسرائيل على طاولتها ليس مجرد "مسدس مدخن" بل مسدس ساخن أخذ مباشرة من ساحة الجريمة، إسرائيل تثبت خرقًا لقرارين من قرارات مجلس الأمن، نحن ننتظر الآن أن يدفع أصدقاؤنا في الأممالمتحدة هذه الشكاوى للبحث في مجلس الأمن بأسرع وقت ممكن، ولعل هذا ما سيبدد سحب "غولدستون" ويوضح للعالم الإرهابي الحقيقي". لازالت توابع زلزال "غولدستون" تهيمن على الساحة الإسرائيلية، وتمثل صدمة حقيقية للجميع، وعند مطالعة التقرير ذي ال 575 صفحة سنكتشف أن أكثر ما أصاب حنق إسرائيل هو الفصل رقم (26) بالإضافة إلى الفقرات الثلاث من 1674 – 1676، فقد حقق ذلك الفصل سابقة تاريخية عندما وجه نقدًا واضحًا لأجهزة فرض القانون والتحقيق الإسرائيلية واتهمها بفقدان المصداقية، وهي التي حظيت على مدى السنين بالتقدير لعملها بصورة مهنية ومستقلة- كما يراها العالم- وكنتيجة لذلك تمتع الإسرائيليون بحصانة من تقديمهم إلى المحاكمة في الخارج، والجميع يتذكر اللجنة الرسمية للتحقيق في مذبحة صبرا وشاتيلا التي أدت لإقالة "شارون" وزير الدفاع في ذلك الحين، كما كانت محاكمات الجنود الإسرائيليين في كل حالة قتل لفلسطيني أثناء الانتفاضة الأولى يتم تغطيتها إعلاميًا بشكل مكثف، ومن خلاله استطاعت إسرائيل تعزيز تلك الصورة الايجابية. الجديد هذه المرة أن التقرير مليء بالاقتباسات التي جمعت من وسائل الإعلام لرجال جيش ومسئولين إسرائيليين، في ظل الإشارة إلى أسمائهم ومناصبهم، واتهامهم ب36 حالة من جرائم الحرب وبسياسة قتل متعمد للمدنيين، وهو ما دعا رجال القانون للإعلان صراحة عن أن هناك خطر كبير على الضباط والمسئولين عند سفرهم للخارج، الجديد أيضًا هو التدهور الواضح في تأييد إسرائيل من دول العالم - ولاسيما في الدول الأوروبية- لدرجة أن الأمين العام للأمم المتحدة قال لوزير خارجية إسرائيل "ليبرمان": إذا كنتم تريدون أن نمتنع عن معالجة تقرير غولدستون، فتفضلوا بتشكيل لجنة تقصي حقائق. وبالرغم من أن وزير الدفاع "ايهود باراك" قال أنه لن تتشكل لجنة تحقيق أو لجنة فحص تقوم بالتحقيق مع أي ضابط أو جندي من الجيش الإسرائيلي، على اعتبار أن إسرائيل قد أرسلت أبناءها إلى مهمة وطنية، وهم يستحقون المساندة المطلقة، وإلا فإننا كمن يخون الجيش ويبصق في وجهه، إلا أن "نتنياهو" قد أمر وزير العدل "يعقوب نئمان" بأن يقود فريقًا مهنيًا يرفع توصياته للعمل القانوني، الدبلوماسي والإعلامي، للتصدي لآثار التقرير، وقد بدأت إسرائيل تحقق بعض النجاح في هذا الاتجاه، أثمر عن وقوف 6 دول ضد تقرير "غولدستون" من بينها ايطاليا وهولندا، كما امتنعت 11 دولة عن التصويت من بينها البوسنة والهرسك ذات الغالبية المسلمة. بالفعل فقد بدأت إسرائيل تستجيب للضغوط الدولية، وتلمح لإمكانية القبول بتشكيل لجنة فحص محلية، كخطوة دفاعية يتم خلالها فحص التحقيقات الداخلية للجيش الإسرائيلي والحديث مع الضباط الذين أجروها، ولكن لأنهم يجيدون قواعد اللعبة جيدًا فقد امتدت التلميحات أيضًا لتعتبر أنه لا يمكن أن تكون إسرائيل مطالبة بنشاط تعفى منه دول أخرى، فاللجنة ستقام في اليوم الذي يقيم فيه الأمريكيون والبريطانيون لجانًا للتحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبوها في أفغانستان؛ والتي ارتكبها الروس في الشيشان، كما ظهرت مجموعة أخرى من الاقتراحات التي تهدف إلى ممارسة ضغط دولي لمواجهة التقرير، كان أغربها ما اقترحته جريدة "هآرتس" يوم 25 أكتوبر مطالبة بإقامة أمم متحدة بديلة تضم الدول الديمقراطية فقط، بالإضافة إلى المبادرة التي قدمها نائب رئيس حزب كاديما "شاؤول موفاز" والتي استهدفت صرف الانتباه إلى قضية المفاوضات مرة أخرى، والتي سنتناولها بمزيد من التفصيل الأسبوع القادم إن شاء الله. الدور الآن على منظمات حقوق الإنسان العربية، والأفراد المتضررين من الحرب على غزة، لسنا بحاجة إلى موافقة حكومية أو دعم رسمي من الأنظمة العربية، فقد أصبح بإمكاننا التوجه مباشرة إلى القضاء ومقاضاة إسرائيل في كل دول العالم بناء على تقرير "غولدستون"، نحن بحاجة إلى جهد إعلامي احترافي مضاد للحملة التي تقودها إسرائيل لتجميل صورتها. الآن يمكن أن يظهر أيضًا الدور الفردي لكل منا بالاستفادة من وسائل الإعلام المتاحة -وخصوصًا الانترنت- لتوجيه خطاب إعلامي متميز بلغة يفهمها الغرب، لغة تختلف عن الأسلوب الإعلامي العشوائي الذي يتسم بالمحلية الشديدة، جرب أن تقوم بالبحث على موقع "اليوتيوب" عن حرب غزة باللغة الانجليزية، وسوف تواجهك صدمة أن أغلب ما يشاهده الغرب يمثل وجهة النظر الإسرائيلية. دعونا نستغل هذه الفرصة النادرة كأفراد ومنظمات قبل أن تنجح إسرائيل في التغطية عليها باحتراف وتفتعل الجديد من الأحداث.. دعونا نفهم كيف تدير إسرائيل قواعد اللعبة ونواجهها بنفس السلاح فالظروف الدولية حاليًا مهيأة بصورة لم تحدث من قبل على الإطلاق.. أعتقد أنه قد حان دورك لتقدم شيئًا للقضية الفلسطينية. وأخيرًا.. بناء على اقتراح قيم من القارئ العزيز أشرف محمود، بإضافة روابط للمقال كمرجع لمن أراد الاستزادة أو الاطلاع على مشاهد مصورة مرتبطة بالموضوع، فأنا أبدأ اليوم باطلاع السادة القراء على الملخص التنفيذي لتقرير "غولدستون" باللغة العربية من خلال الرابط: http://web.alquds.com/docs/goldstone-report.pdf [email protected]