يتشكل الآن مستقبل كل من العراق وأفغانستان بعد أن أفلست سياسة الإدارة الأمريكية والتي اعترفت بفشلها في إدارة الاحتلال وإن لم تعترف بخطأ قرار الاحتلال نفسه، فقد أيدت هيلاري كلينتون وهي عضو في الكونجرس غزو العراق وبالطبع أفغانستان، ولكنها طالبت بانسحاب القوات الأمريكية من العراق لفشل إدارة الاحتلال، كما توشك أن تكون جزءاً من قرار أوباما المنتظر بالانسحاب من أفغانستان. وقد أعلنت واشنطن خطة مبدئية للانسحاب من العراق، ولكنها تريد أن تطمئن علي أنها قد خلفت وراءها نظاماً موالياً لها، ويحزنها أن تشهد توغل النفوذ الإيراني المتربص بالحلول محلها من خلال التركيبة السياسية المتصارعة والتي تنتظر القفز علي السلطة في الانتخابات القادمة. في العراق هناك معادلات تستبعد المقاومة وتقر بالعملية السياسية التي تستبعدها من الحساب لأسباب كثيرة أهمها أن واشنطن فسرت قرارات مجلس الأمن في العراق علي أنها تقر بمشروعية الاحتلال، ولذلك لم يستهجن الوسط العربي هذا الاحتلال وربما أبدي ارتياحاً لسقوط صدام حسين. وأما السبب الثاني فهو أن الدول العربية المجاورة للعراق حتي لو ساعدت المقاومة، فإنها لا تستطيع مناهضة واشنطن والمجاهرة بذلك، أو حتي الاعتراف في خطابها السياسي بالمقاومة، إلا مؤخراً حين بدأ الخطاب في بعض الدول العربية يتحدث عن المقاومة وعن الفرق بينها وبين الإرهاب الذي تعزوه أوساط كثيرة إلي إيرانوالولاياتالمتحدة وإسرائيل، وإن اتجهت بعض أصابع الاتهام إلي غيرها من الدول المجاورة، ولكن العنف عموماً والذي غلبت عليه الإساءة إلي أمن العراقيين ظل حتي الآن مستهجناً في الوسط العربي المحيط، كما أن إيران وظفت عناصر لضرب المقاومة العربية ضد الولاياتالمتحدة أو للمشاركة في مقاومة الاحتلال حسب الظروف حتي يكون لديها الورقتان في حساباتها مع الولاياتالمتحدة بعد أن أقنعتها بأنها اللاعب الرئيسي السياسي والميداني في الساحة العراقية، بينما اتجهت واشنطن في مرحلة متأخرة إلي تشجيع السنة والحوار مع المقاومة لإحداث بعض التوازن مع الوجود الإيراني. وهكذا تتجه الجهود لبناء العراق الجديد خالياً تماماً من عناصر المقاومة، مما يعني أن واشنطن التي حاولت توظيف عناصر البعث والتلاعب بمصيره بعد حل الحزب وتشويه صورته، لم تصل إلي صيغة وسط إزاء خطط مواجهة إيران بعبارة أخري، أن صورة العراق الجديد وفق هذه التقديرات سوف تغلب عليها عناصر الشيعة الموالية لإيران، مع منح الأكراد القسط الأوفي من الحكم الذاتي الذي يلامس مستوي الاستقلال عن العراق في إطار النظام الفيدرالي الذي قصدت به واشنطن فعلاً تمزيق العراق. فالعراق الجديد بهذه الطريقة سيكون محل نزاع بين القوي المؤيدة لإيران والأخري المؤيدة لواشنطن، وسوف يكون لمستقبل العلاقات الأمريكيةالإيرانية أثر حاسم في رسم مستقبل العراق في أي من المعسكرين. ومعني ذلك أن الشخصيات والقوي السياسية التي دخلت الساحة ومكنتها واشنطن من كراسي الحكم هي نفسها التي تنقسم بين واشنطنوإيران، أما المقاومة التي بذلت كل جهد لإرغام واشنطن علي الانسحاب فإنها خارج الحسابات، مما يعني أن المقاومة بعد الانسحاب الأمريكي لابد من وجودها في التركيبة السياسية الأميل إلي العراق العربي الموحد، أو أن يقوم صدام بين المقاومة وذيول الاحتلال بعد رحيله. أما الموقف في أفغانستان فهو مختلف تماماً، حيث تمكنت طالبان وهي المقاومة الأفغانية من دحر الاحتلال المتعدد الجنسيات والتقدم رغم القدرات الأمريكية والأطلسية حتي اضطرت واشنطن إلي دفع كرزاي للحوار مع طالبان، والتي ترفض الاحتلال وعملاءه مما يعني أن مستقبل أفغانستان إذا سارت الأمور علي هذه الوتيرة سوف يشهد تولي طالبان الحكم ربما مع بعض العناصر الوطنية في خليط جديد، وهو ما يعني دعم طالبان باكستان وزيادة الضغوط العسكرية علي واشنطن وحكومة إسلام أباد. وقد استعدت واشنطن لهذا الاحتمال عن طريق عدد من الرسائل الواضحة التي تعمدت إرسالها إلي العالم وهي أربعة أساسية، أولها أن واشنطن قررت الانسحاب و البقاء معاً فى صيغة سيكون لهاما بعدها، ولكن واشنطن في الأغلب ستقرر الانسحاب بعد أن أعلنت دول حليفة أنها لن تبقي في أفغانستان، وبعد فتح ملف العراق في بريطانيا ومن بعده أفغانستان، وهو ما يشير إلي أن بريطانيا مع كل خسائرها المتزايدة لن تبقي سنداً لواشنطن حتي لو قررت البقاء، كما تدرك واشنطن أن حلفاءها الذين ساندوها في العراق وأفغانستان انقلبت عليهم شعوبهم ولم تغفر لهم الانسياق وراء سياسات خطرة ومغامرة، وأن بيانات المجاملة لا تكفي لمواجهة الموقف. الرسالة الثانية، هي إعلان واشنطن أنه يستحيل كسب الحرب عسكرياً، كما تواردت تقارير القيادات الميدانية في هذا الاتجاه، وتململ بعض القيادات والجنود من جدوي هذه الحرب الغامضة بعد أن ضاع الهدف الواضح منها. الرسالة الثالثة، هي إعلان واشنطن عن الفصل بين القاعدة وطالبان، فهي مستعدة للتعاون مع طالبان لكنها تحارب القاعدة في كل مكان، وهو إشارة إلي التراجع واستعداداً لما هو آت. أما الرسالة الرابعة، فهى الاتجاه إلي تحميل المجتمع الدولي كله مسئولية أفغانستان وذلك بالنظر في دعوة مؤتمر دولي يقرر أمور البلاد، فضلاً عن ضغوط الغرب لتحسين صورة كرزاي بشأن الفساد دون أن يتسامح مع حقيقة أنه جاء بالتزوير. غير أن الوسط المحيط بطالبان كان العامل الحاسم في الغزو الأمريكي تماماً كما كان الوسط العربي متسامحاً أو مؤيداً لغزو العراق، ولكن حسابات واشنطن في أفغانستان تختلف تماماً عن حساباتها في العراق، كما أن لإسرائيل قول نسبي في الحالين وإن كان في حالة العراق تغلبت النظرة الإسرائيلية علي عناصر القرار الأمريكي.في هذا السياق الذي أشرنا إليه، يصبح للمقاومة الأفغانية اليد الطولي في رسم مستقبل أفغانستانالجديدة، بينما يرتسم مستقبل العراق الجديد بدون المقاومة، وهذا هو أحد أهم أسباب عدم سلامة المشهد الجديد، وبغير توافق عراقي شامل بما فيه المقاومة، فإن العراق الجديد لن يقوم علي أسس مستقرة.