بما أن كلاهما وصل للسلطة، حماس في فلسطين، وقبلها حزب العدالة والتنمية في تركيا، لهذا علينا النظر بتعمق في مسار عملية الوصول للسلطة من قبل التيارات الإسلامية المعتدلة. ولعل العنوان الأبرز في مسيرة الوصول للسلطة هو التنازلات، وهو ذلك العنوان الذي يترجم بتعبيرات شتى، تتراوح في شدتها، ما بين تعبيرات ذات ملمح ايجابي، وأخرى ذات ملمح سلبي. ولكن المضمون النهائي واحد، فإذا كانت الحركات الإسلامية، أو بعضها سوف تصل للسلطة، أو سوف تكون جزءا من اللعبة السياسية، فعليها أولا أن تتغير. فالمطلوب إذن، أن تتغير الحركة الإسلامية، حتى يتاح لها الاندماج في الحياة السياسية، وفي النظام الديمقراطي، ويكون لها الحق في العمل تبعا لقواعد العمل السياسي المتفق عليها. وتلك الصورة في الواقع، تبدأ من مشكلة تحديد قواعد العمل السياسي المتفق عليها، أي الاتفاق على قواعد النهج الديمقراطي وقواعد الاحتكام لصناديق الانتخاب. والملاحظ أن من يضع هذه القواعد حتى الآن، هم النخب الحاكمة والنخب الثقافية المتحالفة معها، والإدارة الأمريكية التي تقود الجميع. لهذا يلعب الجميع لعبة الشروط. وها هي حماس مثالا جيدا، فقبل الانتهاء من إعلان النتائج، كانت قائمة الشروط تكتب، وتحدد التهديدات، وتبدأ لعبة العصا والجزرة. وسمعنا مثلا أن على حماس الاعتراف بإسرائيل إذا كانت تريد تشكيل الحكومة. وسمعنا هذا الكلام من الإدارة الأمريكية ومن الاتحاد الأوروبي، وهو نفس ما سمعناه من كتاب المقالات العرب، ممثلي النخب السياسية والثقافية، وهو نفس ما سمعناه من النظام المصري، وكأن الجميع أصبح في قارب واحد أمام حماس. في المقابل كانت التجربة التركية رغم تميزها الخاص، تمثل الحاضر الغائب في مسألة الإسلاميين. فرغم أن تركيا لها ظروف خاصة، تميزها عن البلاد العربية، إلا أن وصول حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا، أصبح المثل الذي تردده الإدارة الأمريكية، والذي يمثل النموذج الإسلامي المقبول من وجهة نظرها. وأصبح الحديث حول ضرورة الأخذ بالنموذج التركي متواترا بين الإدارات الغربية والنخب السياسية والثقافية. ونفهم من ذلك، أن من يريد من الحركات الإسلامية الدخول في اللعبة السياسية، عليه أن يأخذ بالخطاب السياسي لحزب العدالة والتنمية، وإلا لن يكون له الحق في ممارسة السياسة. نفهم من ذلك أن للديمقراطية حسب المشروع السياسي الغربي شروطا، تبدأ بخطاب سياسي يبتعد عن الخطاب الديني، وتتراجع فيه الشعارات الدينية، ويقوم على قيم الديمقراطية، والقبول بمبدأ فصل السياسية عن الدين، أي العلمانية، والتي تعني تأسيس السياسة على أسس دنيوية لا دينية. والواقع أن حزب العدالة والتنمية وصل للسلطة بعد أن غير خطابه السياسي، وابتعد عن الخطاب السابق الذي ميز حزب الرفاه ورئيسه نجم الدين أربكان، والذي أعتبر خطابا صداميا. تلك الرؤية التي حملها رجب طيب أردوغان، والذي حوكم من قبل على بعض تصريحاته، تقول بأن على الحركة الإسلامية القبول بأسس النظام السياسي القائم، مادامت تريد العمل من خلاله، حتى وأن تعارض من أسس ومبادئ هذه الحركة. وهنا يكون عليها تأجيل أو تغيير بعض الأسس التي يقوم عليها فكرها. وبعض المتعاطفين مع تجربة أردوغان، يأخذ بمنهج التأجيل وتغيير الأولويات، بمعنى جعل التطبيق الديمقراطي هو الأولوية على تطبيق الشريعة الإسلامية مثلا، ويصبح شعار تطبيق الشريعة الإسلامية مؤجلا، بأن يختفي مرحليا من الخطاب السياسي. وهذه النظرية تقوم على نوع من التقية السياسية السنية، وهي في الواقع نهج جديد على الحركات الإسلامية، ولم يكن جزءا من ممارستها في الماضي، كما قد يظن البعض. في المقابل يرى بعض الإسلاميين أن أردوغان قدم تنازلات حقيقية، وأنه لم يعد يمثل المشروع الإسلامي، والذي جاء في خطاب أردوغان نفسه في أيام حزب الرفاه. وكأننا أمام احتمالين، الأول هو تأجيل جزء مهم من المشروع الإسلامي، ليكون جزءا غائبا مؤقتا، والثاني هو تحول حزب العدالة والتنمية ليصبح حزبا لا ينتمي بالكامل للمشروع الإسلامي، أي حزبا وافق على قبول النموذج السياسي الغربي مع انتماءه للمشروع الحضاري الإسلامي في جوانبه الاجتماعية والحياتية، دون تطبيقه على النظام السياسي. أما حركة حماس فقد وصلت للسلطة دون تقديم تنازلات، والآن يطلب منها التنازل عن بعض ثوابتها حتى تبقى في السلطة، وكأن بقائها في السلطة ليس رهنا بإرادة من اختارها في انتخابات حرة. وأمام حماس الآن تحدي أساسي، سيؤثر على مجمل الحركات الإسلامية، ومجمل المشروع الحضاري العربي الإسلامي. فقدرة الحركة الإسلامية على ممارسة السياسة من خلال النهج الديمقراطي، دون التنازل عن مشروعها، يمثل اختراقا حقيقيا للمجال السياسي، وتأسيسا لدور سياسي للحركات الإسلامية، يأخذ بآليات الديمقراطية دون أن تفرض عليه قيمها، ودون أن تفرض عليه العلمانية، ولا النموذج السياسي الغربي. وفي مقابل التحديات التي تواجه حركة حماس، فإن حزب العدالة والتنمية يواجه تحديا آخر، وهو قدرته على استعادة تميز مشروعه رغم ما قدم من تراجع. فقد أصبح نموذج العدالة والتنمية مؤثرا على بعض التوجهات الإسلامية، ونجاحه في استعادة تميزه الحضاري، يؤسس لمنهج تأجيل القضايا المبدئية لصالح القضايا الفرعية كوسيلة لدمج الحركة الإسلامية في النظم السياسية القائمة. وفشل حزب العدالة والتنمية في استعادة تميزه، تعني أنه سيندمج في النهاية مع الحل السياسي العلماني القائم على النموذج الغربي. فقد تقترب مسارات حماس والعدالة والتنمية، أو تبتعد وربما تتعارض. [email protected]