جزيرة الوراق مقبرة جماعية "لأحياء موتى" يسيرون على قدمين سكان الجزيرة: الوباء يغتال أطفالنا والرجال يتساقطون قبل سن الأربعين زوارق الموت قطعة صفيح بدون أسوار تنقل البشر والحيوانات والطيور حلم الكوبرى أصبح مجرد لوحة على باب الجزيرة الجزيرة تفتقد إلى شبكات الصرف الصحى وسيارات "الكسح" تلقى الفضلات فى النيل الشمامون يفرضون الإتاوات على أهل الجزيرة وقسم الشرطة يوجد به غفير واحد نعمة محمد القط سيدة مصرية ولكنها ليست ككل نساء مصر، لفت نظري جلوسها في طابور طويل ينتهي إلى مرسى دمنهور النيلي المطل على مدينة المؤسسة بمنطقة شبرا انتظارًا لقدوم "الموت العائم" كما يسميه سكان الجزيرة لينقلها إلى موطن رأسها. جزيرة الوراق "مقبرة" منعزلة بعيدًا عن عمار مصر رغم أن من يقطنها يبلغ عددهم أكثر من 120 ألف مصري إلا أن الوسيلة الوحيدة لربطها بالشاطئ مجرد زوارق متهالكة انتهي عمرها الافتراضي منذ أكثر من عشرين عامًا. جزيرة الوراق رغم أن تصنيفها بين الجزر تقع تحت بند محمية طبيعية إلا أن مشهد طفوها حول النيل يثير الكثير من الاشمئزاز والشفقة على سكانها، فالجزيرة ليست كما يبدو تعوم فوق سطح النيل ولكنها تعوم فوق طبقة ضخمة من مياه الصرف الصحي. اقتربت من السيدة نعمة التي تبلغ من العمر حوالي أربعين عامًا، ربة منزل، خرجت كالعادة في يومها هذا لشراء مستلزمات منزلها قبل أن تعود لأبنائها على سطح "الموت العائم" كما يطلقون عليه، وسألتها عن سبب انتظارها الطويل أمام المرسى، وعن سبب انتقالها يوميًا خارج الجزيرة لشراء كل مستلزماتها، كان رد نعمة التلقائي مفحم إلى حد جعلني أشعر بمدى معاناتها، عندما أخبرتني أنها مضطرة إلى خوض مخاطرة ركوب الزورق المتهالك يوميًا حتى لا يموت أبناؤها الأربعة، لأنهم مصابون جميعًا بالتهاب كبدي حاد، ولإنقاذ أطفالها تركب يوميًا "الموت العائم" لشراء المياه النظيفة حتى يشربون، لكن ما أثارني أنها أكدت لي أن كل أهالي الجزيرة مرضى ويموتون في سن صغير. قررت خوض التجربة وركوب "الموت العائم" كي أقترب من الصورة، لم يكن الانتظار طويلًا فيبدو أن الزورق رغم تهالكه يحمل الجميع بلا استثناء، ركبنا الزورق وسط حشد من تلاميذ المدارس، وبعض من النساء التي تحمل مشنات من العيش وأواني الجبن وأقفاص من الدجاج والبط، وكثير من الرجال التي تسحب خلفها الماشية، وعربة "كاروا" محملة بالبرسيم. جلست نعمة على الأريكة التي تكاد تكون متهالكة ووضعت بجوارها ما كانت تحمله من مستلزمات منزلية، كانت تتنفس بصعوبة وذات نظرات ذائغة متوترة وكأنها تنتظر حادثًا أليمًا، وعندما سألتها عن اضطرابها أخبرتني أنه جرت العادة أن يموت أحد ركاب الزورق غريقًا، ولا يجد من ينقذه من الموت، هذا ما يجعلها تضطرب كلما ركبت "الموت العائم"، فهي لا تزال تذكر منظر الشاب الذي غرق منذ خمسة أيام، ولا يمكنها نسيان صوته الهالك الذي كان يستنجد دون جدوى، ذلك الشاب الذي يبلغ من العمر 23 عامًا، والذي كان مقبلًا على الزواج، قائلة إن الأكثر إيلامًا مشهد شقيقته الصغرى التي أرادت أن ترمي نفسها خلفه، سكتت نعمة قليلًا عن الكلام وأخرجت خمسة وعشرين قرشًا لتدفع ثمن الرحلة، ودخلت معه في جدل حول ثمن ما تحمله، ولكنها في النهاية دفعت مضطرة خمسة وعشرين قرشًا إضافية. تركت نعمة لجدالها مع الرجل ونظرت إلى الركاب، واكتشفت أن النظر إلى الركاب بتمعن يجعلهم متشابهين في شيء ما، فجميعهم يبدو على ملامحهم الاضطراب، وكلهم يتشبثون بقوة بأي شيء في القارب، الأمر الذي جعلني أتشبث بأقرب بروز وجدته أمامي، لاحظت نعمة تأملاتي ورد فعلي التلقائي، وابتسمت ابتسامة مريرة قائلة إنها تتمنى أن تجد رد الفعل هذا من الحكومة ولكن للأسف لا أحد يشعر بهم وبمعاناتهم. جملة نعمة الأخيرة جعلتني أسألها عن سبب عدم وجود كوبري يربط الجزيرة بالعالم الخارجي بدلًا من كل هذه المخاطر، ويبدو أن سؤالي كان غريبًا على الجميع، فقد تضاحك كل من سمع تساؤلي وتداولوه فيما بينهم بسخرية يائسة، وأخبرتني نعمة أن الكوبري مجرد جزء من مآسي الجزيرة، وحلم يائس لن يتحقق، وكثيرًا ما طالبوا الحكومة بإنشاء كوبري يكون رحمة بالأطفال والشباب والشيوخ ولكن لا حياة لمن تنادي. الرائحة البشعة والمنفرة كان أول ما استقبلتنا حينما اقتربنا من الجزيرة، لم يكن النسيم الذي وصل إلى أنوفنا يبشر برحلة طيبة داخل جزيرة في وسط نهر النيل، ويكفي أن لون المياه بدأ يميل إلى لون الأخضر، كانت "المعدية" في ذلك الوقت ترسو في المرسى الصغير على شط الجزيرة، والتي تكاد ملامحه تختفي خلف أكوام من القمامة، والغريب أن المياه المقززة والقمامة البشعة لم تمنع طابور من الفتيات يقمن بغسل الملابس وأواني الطعام على الشط. بمجرد نزولي إلى الجزيرة وجدت حلم الجزيرة مكتوب على لافتة كبيرة معلقة في مدخل الجزيرة، اللافتة مكتوب عليها "الكوبري حلمنا لحياة غير منعزلة"، الحقيقة أن الطابع الأولي الذي وصل لي بعد رؤية بشاعة مياه النيل ومنظر القمامة جعلني أرى هذا الحلم قاصرًا جدًا، فيبدوا أن الجزيرة ينقصها الحياة، ويبدو أنها أقرب للموت البطيء. كان كلامي الموجه لنعمة هذه المرة اتهام صريح لكل أهالي الجزيرة، بأنهم يستحقون الموت لما فعلوه بأكبر جزر النيل وبالمياه، كان من الطبيعي أن تدافع عن نفسها وعرضت أن تصطحبني في جولة داخل الجزيرة لأشاهد عن قرب مشكلاتهم المزمنة، الملاحظة الأولى التي لفتت انتباهي الشوارع الضيقة التي تكاد تكون ممرات طويلة، ويزيد من ضيقها أكوام القمامة ومياه الصرف الصحي الذي ينشع في كل أرجاء الجزيرة، طلبت نعمة أن نصل إلى منزلها في البداية لتترك هناك ما معها من مستلزمات، كان من الصعب الدخول إلى منزلها، بسبب مياه الصرف الصحي الذي يملأ المنزل من الداخل، فامتنعت عن الدخول وتركتها تصعد على الأحجار المرصوصة للوصول إلى الغرفة الداخلية. بمجرد أن خرجت من منزلها سارعت بإخباري بأن إمكانيات زوجها المتدنية لا تمكنهم من نزح "الطرنش" أكثر من مرتين في الشهر، خاصة وأن عربة "الكسح" تحصل على ثلاثمائة جنيه عن كل مرة، مشيرة إلى أن هذا ليس حالها وحدها وإنما هو حال أهالي الجزيرة كلها، فلا يوجد شبكة صرف صحي تساعدهم على التخلص من مياه الصرف الصحي، والوسيلة الوحيدة التي اتبعها كل من يسكن الجزيرة هي بناء "الترنشات"، ثم نزحها كلما امتلأت. خرجنا من الممرات الضيقة وتوجهنا إلى شاطئ آخر للجزيرة، لا يختلف عن الأول، فالقمامة تملؤه عن آخره وتعلو المياه فطريات خضراء اللون، وعلى بعد 100 متر تقريبًا ينمو خوص أخضر يسمونه ب"العفش"، الخوص الكثيف كان مركز جذب للفطريات الخضراء فصنع حوله هلال كبير، لم يختلف أيضًا في تواجد عديد من السيدات التي تقفن داخل المياه المقززة لغسل الملابس وأواني الطعام، الكارثة أن نعمة أوضحت لي أن كل هذه الفطريات ليست نتاج الغسيل على شط النيل، إنما هو الصرف الصحي المنزوح من "ترنشات" الجزيرة كلها، فعربة "الكسح" التي تعبر إلى الجزيرة في "الموت العائم" لا يرغب صاحبها المجازفة بالخروج والعودة إلى الجزيرة أكثر من مرة، لذلك يتخلص من مياه الصرف بإلقائها في النيل. كان من الطبيعي أن يستسلم أهالي الجزيرة لتحكمات وتجاوزات أصحاب عربات "الكسح"، سواء في السعر المبالغ فيه والتي يدفعونها مضطرين، أو في رمي الصرف الصحي في النيل، لأنهم على حد قول "نعمة" عانوا الأمرين على يد النظام السابق، واستمرت معاناتهم مع النظام الحالي، فالحكومات لا تنظر إليهم باعتبار إنهم من بني البشر ولهم حقوق مثل كل المصريين، ولا تعطيهم أبسط الحقوق الإنسانية في حياة كريمة نظيفة، فعدم وجود صرف صحي دمر حياة كاملة على سطح الجزيرة، وقضى على صحة أهلها. "خيالات تمشي على الأرض"... التعبير الوحيد الذي يمكن أن نصف به أهالي الجزيرة، فالنحافة والذبول والملامح التي تدل على أعمار أكبر من حقيقتها السمة العامة لسكان الجزيرة، أوقفتنا فجأة سيدة بدينة نوعًا ما، بيضاء البشرة، ترتدي جلباب أسود وحجاب أزرق اللون، تبدو كأنها في الخمسين من عمرها، رغم إنها لم تتجاوز الثلاثينات بعد، كلمات اليأس التي تفوهت بها عن أن التصوير ومحاولات التواصل مع المسئولين لن تفيد جعلتني أشعر بمدى ما عانته في حياتها، تركتنا وهي تردد بأنه لا فائدة مما نفعل، وأن الموت قادم بخطى سريعة. "عذرًا... إنها مريضة كبد تنتظر الموت" كانت هذه العبارة الوحيدة التي اعتذرت بها "نعمة" عن تصرف السيدة التي اقتحمت جولتنا دون ذكر اسمها، وعندما شعرت بواقع الصدمة على وجهي أخبرتني أن هذا واقع أهل الجزيرة، الكل يشعر بالألم، فالكل لهم أحباب توفوا بعد معاناة طويلة مع المرض، مؤكدة أن معظم الشباب يتوفون في الثلاثينات من عمرهم، فعدم وجود شبكة صرف صحي ومياه نظيفة جعل الجزيرة مقبرة جماعية "لأحياء موتى" بالفشل الكلوي والالتهاب الكبدي، وقالت إن حلمهم هو أبسط الحقوق الإنسانية فهم لا يطلبون امتلاك العمارات أو ينظرون إلى أصحاب القصور، فكل مطالبهم مياه نظيفة وكوبري يخرجهم من عزلتهم. " كل هذه الزوارق قتلت عديدًا من أهل الجزيرة حتى إننا لم نعد نتذكر أسماءهم" قالت ذلك وهي تشير إلى الزوارق العائمة في النيل، ونادت على رجل كبير، إنه الحاج "عبد الرحمن علي" الذي يبلغ من العمر 58 عامًا، الذي بدأ كلامه بأنه صار وحيدًا فجأة بعد حادث غرق أحد العبارات سنة 1983، ذلك الحادث الذي اختطف 42 رجل وامرأة من سكان الجزيرة، وكان من بينهم شقيقيه، وذكر لي أن مسلسل الغرق لم يتوقف يومًا، فمنذ خمسة أيام استقبل النيل غريقًا جديدًا من أهالي الجزيرة، ورغم ذلك ففكرة بناء كوبري هو الحلم الذي لن يتحقق، رغم أنهم في دوامة مع القضاء منذ أربعين سنة. "سكان الجزيرة عرائس النيل"... هذا أكثر ما اقتنع به الحاج عبد الرحمن عندما علم أن الحكومة تنشئ مرسى جديدة للجزيرة إجمالي تكلفتها 8.5 ملايين جنيه، وتتجاهل طلباتهم ببناء كوبري يحميهم ويحمي أبناءهم من الغرق، الأمر الذي جعله يتأكد من أن الحكومة تقدمهم قرابين للنيل، ولكن النيل لم يعد نيلًا مقدسًا كما كان بل ملوثًا بمياه الصرف الصحي. "كل ما نطلبه كبري مشاة لنقل المرضى إلى المستشفيات.. والتي تموت قبل أن تصل إلى المستشفى في الوقت المناسب" كان هذا صوت ناصر عبد الشكور، شاب في الثامنة والثلاثين من عمره، وإن كان كالمعتاد يبدو عليه العمر الكبير، بشعره الذي وخطه الشيب وجسده الهزيل، ووجهه المنحوت بعض الشيء. ناصر أحد شباب الجزيرة التي تنتظر الموت، والذي يعاني من عدم وجود أي وسيلة مواصلات سريعة عندما يعاني من الألم المميت، فرغم سنه الصغير إلا أنه استأصل الطحال، ويعاني من الالتهاب الكبدي الوبائي ومن دوالي المريء، ويضطر لإجراء المناظير كل ستة أشهر، وكل هذا بسبب المياه التي يشربها كل أهالي الجزيرة، ولكنه قال أن هذا ليس حاله وحده وإنما حتى الأطفال يعانون من أمراض البلهارسيا والكبد والكلى، وقال ساخرًا إن الجزيرة بها وحدة صحية يعمل بها أربعون طبيبًا وأكثر من 100 موظف، ولا يجدوا الطبيب بعد الساعة الثانية عشر ظهرًا، وعلى أية حال لا يوجد بالمستشفى أية إمكانيات لعلاج جرح صغير، فيضطر الطبيب أن يحول المريض إلى مستشفى خارج الجزيرة، فإن كان المريض ينزف يموت قبل أن تصل العبارة كما حدث كثيرًا. هنا تدخل الحاج عبد الرحمن وقال إن زوجته التي تعاني من الفشل الكلوي تعاني الأمرين في عملية المواصلات كلما احتاجت إلى غسيل كلوي، وأن كثيرًا من السيدات الحوامل تلد أطفالها على العبارة قبل أن يصلوا إلى المستشفيات، ومنهن من يتوفاهن الله في منتصف الطريق، قائلًا بسخرية إن كل ما اهتم به المحافظ "عبد الرحمن علي" بعد الثورة هو بناء مرسى جديدة ووعد بشراء عبارة جديدة، مشيرًا إلى أنه كان يمكنه أن يعتمد هذا المبلغ للجيش، وكان يمكنه أن يبني لهم الكبري، خاصة وأن أهالي الجزيرة مستعدون أن يدفع كل منهم ألف جنيه للمشاركة في الصرف الصحي، مساهمة منهم لحل أزمتهم. وقال ناصر "لو يوجد أدنى تفكير أو اهتمام بقضية انعزالنا عن العالم، لكانت الحكومة فكرت أن تنقل كبري أبو العلى المفكوك وأعادوا تركيبه في الجزيرة، ولكن يبدوا أن حياة 120 ألف إنسان لا تهم أحدًا". جذبتني "نعمة" بعيدًا عن يأس ناصر، وهي تشير إلى أحد قوارب شرطة المسطحات المائية، وهي تقول: "الكارثة الأكبر أن المسطحات المائية تزيد من مشكلاتنا وترفع علينا دعاوى قضائية، بسبب مياه الصرف التي تلوث مياه النيل، ونضطر لدفع غرامات تصل إلى 500 جنيه، لافتة إلى أن هذه الغرامات يمكن أن تدفعها مرتين أو ثلاثة مرات في الشهر، أما المحظوظون منهم فلا تأتي له غرامة إلا كل ثلاث سنوات مرة، قائلة بسخرية وكأنهم يطالبونا بشربها. وصلنا في تلك الأثناء إلى المرسىالجديدة التي بنتها الحكومة والزغاريد ترن في الأجواء، والسيدات ملتفة حول عجوز ترتدي ثوبًا أبيض في طريقها إلى مكة، استقبلنا رجل طويل نحيف أسمر الوجه، إنه هشام عبده، يطلق عليه رجال الحي بمشاكس الجزيرة، فدائمًا ما يلتقي بالمحافظين والمسئولين ويحدثهم عن حال الجزيرة المشوه ويدعوهم لمحاولة تفهم مشكلاتهم، "هنا مرسى المخدرات والشمامين والمبرشمين" هكذا وصفها "هشام" مضيفًا أن المخدرات تباع في هذا المكان علنًا وينادون عليها كأنها طماطم في أي وقت سواء بالنهار أو بالليل. ولأنه لا يوجد في الجزيرة سوى نقطة شرطة واحدة، ولا يوجد بها سوى غفير واحد، فكان من الطبيعي أن تزيد السرقات، خاصة أن قوات الأمن التابعة لقسم الوراق والتي كانت تنزل على الجزيرة توقفت تمامًا عن النزول على الجزيرة، الأمر الذي جعل الأهالي يؤكدون أن غفير القسم يجلس أمام النقطة بلا عمل، ويمكن لأي عيل سوابق أن يثبته ويضربه بمنتهى السهولة. تعالى صوت "نعمة" تفتح مشكلة أخرى بعيدة عن مشكلات الأمن والصحة والعزلة، قائلة إن الدكتور هشام قنديل يعيش في برج منعزل عن الناس ويصرح بأن العيش البلدي متوافر لكل المواطنين، ورغم ذلك لا يوجد في الجزيرة كلها فرن للعيش البلدي، فرغيف الخبز بخمسين قرشًا، وأسرتها المكونة من ست أفراد لا يكفيهم بعشرة جنيهات عيش يوميًا، وتقول ماذا تفعل وزوجها دخله أربعون جنيهًا، وينفق على مواصلاته خمسة عشر جنيهًا، وتشتري مياهًا للشرب من أجل أبنائها التي تموت بعشرة جنيهات يوميًا. ونحن في طريقنا للخروج من الجزيرة التقينا برجل مشوه قليلًا فأشارت إليه "نعمة" تقول هذا نتاج عدم وجود وسيلة لإطفاء الحرائق، فأي حريق يشب تكون له خسائر كثيرة في الأرواح، لأنها تطفأ بمجهود الأهالي وحدهم، ثم قالت إنه عندما طالبوا بمخزن أنابيب اعترفت لهم الحكومة إنها ترفض وجود مخزن أنابيب في الجزيرة لأنها معزولة وإذا نشب حريق فيه ستكون كارثة، وأضافت نعمة أنهم عندما طالبوهم وقتها ببناء كوبري كان رد الحكومة عليهم أنه لا يصلح بناء كوبري، لأن الجزيرة محمية طبيعية. في طريقي للعودة ركبت "الموت العائم"، وعقلي مشحون بحالة الجزيرة المؤسفة، وفيها قابلت أحد أبناء أبو عوف، الذي قال لي إن عائلته هي التي تنقل أهالي الجزيرة كلها بعباراتهم، وتخرجهم من عزلتهم إلى البر الغربي، وعلمت منه أنهم يستأجرون من المحافظة عبارتين وثلاث لنشات، ويدفعون إيجارًا سنويا يبلغ 250 ألف جنيه، ولكن المشكلة الحقيقية التي تقابل أصحاب العبارات، هي الجاز الذي أصبح صعب الحصول عليه، خاصة بعد أن ارتفع سعره ليصل إلى 35 جنيهًا للصفيحة الواحدة وتحتاج العبارات إلى 30 صفيحة يوميًا، وهذا هو أكثر ما يخشاه أهل الجزيرة، فماذا إذا لم يجدوا الجاز؟ من سينقلهم إلى البر الغربي؟.