منذ أن قامت الثورة المجيدة وكثرت النقاشات وموائد الحوار، خاصة بعدما سقطت الخطوط الحمراء، أصبح الجميع متحدثًا لبقًا ومحللًا وخبيرًا فى العلوم السياسية، ولا سخرية فى ذلك إننا بلد 80 مليون مفتٍ، صار كل واحد يدلى بدلوه ويقول رأيه، الكل يتكلم فى وسائل المواصلات وفى الطرقات وعلى المقاهى، بالمعنى الصريح لا يخلو حديث إلا وكانت السياسة مفتاحه، كما أنها أصبحت وسيلة تعارف مجتمعي، ومن المعلوم أن تحتكر النخبة المنابر الإعلامية، فبذلك فتعددت الآراء واختلفت الرؤى وكثرت وجهات النظر. لا مانع أن نكون على وعى كامل بالأمور السياسية، خاصة أننا ظمئنا وفوزنا بحظ الوصول، ولولا أنوار الثورة ما كنا جميعًا من الشاربين، ولكن إذا اتفقنا على أن الاختلاف فى الرأي أمر طبيعي بين البشر لا جدال فيه، وذلك لتنوع الثقافة والفكر والبيئة المحيطة، فإننا حينها لابد أن نتفق أيضًا على أن الرأي هو وجهة نظر تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب، كما قال الأمام الشافعي، رحمه الله، "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأى غيري خطأ يحتمل الصواب"، فرغم مكانته ودرجة العلم التي وصل إليها، إلا أنه لم يخجل من التأكيد على أن رأيه قد يحتمل الخطأ. تلك المقولة الذهبية التي قالها الأمام الشافعي، بعيدة مع الأسف كل البعد عن حواراتنا ونقاشاتنا، كل منا يظن أنه -وحده- فقط من يملك أسرار الحقيقة، المشكلة الآن باتت جلية واضحة، وتقع أكثر على تلك النخبة المسماة بالمثقفة، التي كان ينتظر منها أن تكون هي القائدة الرائدة، أو كان يفترض أن تضرب أروع الأمثال في تقديم نموذج ثري في الحوار والنقاش وإبداء الرأي، ولكن مع الأسف غاب عنها أدب الحوار واحترام الرأي الآخر، وزعم كل منها أنه –هو – فقط صاحب الرأي المعصوم، بل تطاول الأمر إلى السباب والشتائم، وتحول النقاش إلى مهاترات والحوار إلى جدل عقيم لا طائل من ورائه، ولهذا قلما نجد من يقول إن هذا رأيي وتفسيري واجتهادي وقد أكون مخطأً. رغم خطورة وفظاعة هذا الحدث الذي يداهم المجتمع على جميع الأصعدة، لم أقرأ أو أسمع عن مبادرة جادة لوقف هذا الخطر، الذي يسعى باستمرار إلى الفرقة والتناحر والتكابر، بل وحول تعدد الآراء إلى اختلاف – تضاد -، بعد أن كان اختلاف- تنوع - يسهم ويساعد فى حل مشاكل المجتمع. الآن.. الآن لابد من وقفة جادة نحاول من خلالها إيقاف تلك النزيف الذى جعل الحصون مهددة من الداخل، ولعل الجهد المشكور والدعوة القيمة التي قام بها أول أمس السبت المفكر الإسلامي الدكتور جمال نصار؛ في قناة المحور بحضور مجموعة متميزة من الإعلاميين، والتي ناشد من خلالها على ضرورة التحلي بالمصداقية والابتعاد عن التوجهات السياسية، هي أولى الخطوات التي قد تكون بوابة الأمل لحل لهذا الإفلاس الأخلاقي والانفلات الإعلامي، حتى ننهض عاجلًا بالمنظومة الإعلامية والتربوية التعليمية، كي نبنى جيلًا جديدًا يمرن أذنيه منذ وعى على احتواء الرأي الآخر. [email protected]