على منوال خطاب التنحية الناصري الشهير عقب هزيمة الخامس من يونيو 1967م أراد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس "أبو مازن" أن يغزل.. فأعلن في خطاب ألقاه في رام الله بالضفة الغربية أنه لا ينوي الترشح مرة أخرى لمنصب الرئاسة، وقال: "لقد أبلغت الإخوة في اللجنتين؛ التنفيذية لمنظمة التحرير ومركزية فتح، بعدم رغبتي في ترشيح نفسي لانتخابات الرئاسة القادمة، وهذا القرار ليس من باب المساومة أو المناورة أو المزاودة إطلاقًا". وأضاف: "وإنني إذْ أقدِّر للإخوة أعضاء القيادتين ما عبروا عنه من مواقف فإنني آمل منهم تفهُّم رغبتي هذه، علمًا بأن هنالك خطوات أخرى سأتخذها في حينه". وحاول عباس في خطاب اعتزاله أن ينحِي باللائمة على واشنطن، وأن يحمِّلها – من طرف خفي – مسئولية لجوئه إلى اتخاذ هذا القرار، فقال: "إن المواقف المعلنة للولايات المتحدةالأمريكية بشأن الاستيطان وتهويد القدس وضمها، مواقف معروفة، وهي محط تقدير من جانبنا، إلا أننا فوجئنا بمحاباتها للموقف الإسرائيلي". ولم ينس عباس، وهو يلملم أوراقه، غريمه التقليدي "حركة حماس"، فانتقد ما أسماه "الانقلاب الدموي" الذي قامت به حركة حماس في قطاع غزة، معتبرًا أنه "أخطر ما شهدته ساحتنا الداخلية خلال هذه الأعوام الخمسة"، منذ انتخابه رئيسًا للسلطة الفلسطينية في يناير 2005. واتهم حماس بإفشال جهود المصالحة الفلسطينية التي ترعاها مصر "كل مرة تحت ذرائع وحجج واهية". وطالب حماس "بإعادة النظر في سياساتها وممارساتها المدمرة للمشروع الوطني، وأن تتوقف عن الإصغاء لأصحاب المشاريع الإقليمية"، في إشارة إلى حلفائها الإقليميين؛ إيران وسوريا وقطر. وعباس هنا يعيد إنتاج خطاب التنحية الناصري، ولكن في طبعة فلسطينية متفقة في المفردات من حيث إلقاء التبعة على الآخرين وتبرئة الذات من كل عيب ونقص، فعبد الناصر عقب نكسة 67 أعلن في خطاب تنحيته أنه سيترك الرئاسة ليعود إلى صفوف العمل الشعبي بعد أن قدم حفنة من الرؤوس للمحاكمة ككبش فداء، وكان حريًّا به أن يكون على رأس المحاكمين (بفتح الكاف). وأبو مازن هنا يبحث عن حماس ليضع في عنقها وزر ما حدث من أخطاء قاتلة طيلة سنوات طويلة ساهمت في إجهاض الحلم الفلسطيني برؤية دولته وعاصمتها القدس الشريف. نسي عباس وهو يصوغ تراجيديا الوداع أن يذكر لنا دوره ودور من معه من رفاق المقاطعة برام الله في إجهاض الحلم الفلسطيني، بل والتآمر على قضيته؛ من خلال جذبه إلى سراب ومتاهة يدور الشعب فيها منذ سنوات ولا يهتدي إلى طريق. أراد عباس أن يقفز من السفينة بعد أن شارفت على الغرق، ظنًا منه أن ذلك سيعفيه من المسئولية، ونسي عباس أنه مهندس أوسلو وعراب صفقتها الشهيرة، وأنه أحد أهم الذين أقنعوا ياسر عرفات بالدخول في هذه المتاهة ثم انقلب عليه واعتزله في بيته حتى ضغطت واشنطن بكل ثقلها من أجل استحداث منصب رئيس الوزراء له، وأنه أحد أهم المنظِّرين لفكرة أن المقاومة السلمية هي التي ستعيد للشعب الفلسطيني حقوقه، فإذ به اليوم يتأوه من واشنطن وممارساتها، فقد عزا نبيل شعث (عضو اللجنة المركزية لحركة فتح التي يتزعمها عباس) قرار هذا الأخير "للإحباط الشديد الذي يشعر به من العالم كله، عربًا وعجمًا". وقال شعث: "الرئيس عباس ردد أكثر من مرة بأنه لا يريد ترشيح نفسه، نتيجة لشعوره بالإحباط الكبير من الموقف الأمريكي تجاه عملية السلام"، وأضاف: "الأمريكيون تخلَّوا عن التزاماتهم". من جهتها أعلنت حركة حماس أنها غير معنية بعدم رغبة عباس في الترشح مرة أخرى، وقال سامي أبو زهري، المتحدث باسمها: "تلويح (أبو مازن) بعدم رغبته في الترشح لولاية رئاسية جديدة هو شأن فتحاوي داخلي لا يعنينا في حركة حماس". وتابع: "نحن في الحركة نعتبر هذه الخطوة رسالة عتب من عباس لأصدقائه الأمريكان والإسرائيليين بعدما تنكروا له وحولوه إلى مجرد أداة". واعتبر المتحدث الرسمي باسم حكومة حماس في غزة طاهر النونو أن تلويح عباس إنما هو "رسالة موجهة لأمريكا وإسرائيل مفادها أنه إذا أردتم بقائي في منصبي فعليكم تقديم شيء لي، كي أنجح في الانتخابات القادمة". وأكد النونو أن عباس "فشل خلال خمس سنوات من توليه رئاسة السلطة في تحقيق أي شيء من برنامجه السياسي، كما أن خيار التسوية وصل إلى ما هو أسوأ من أوسلو"، مشيرًا إلى أن الاستيطان سيطر على الضفة وقسَّمها، والتهويد في القدس على أشُدِّه. وأضاف: "هو يعلم أنه خيار المجتمع الدولي منذ أن أُجبر أبو عمار على استحداث منصب رئاسة الوزراء ليتولاه أبو مازن، وهو يعلم أنه خيار المجتمع الدولي للرئاسة، لذلك جاء هذا الخطاب". وقال الدكتور صلاح البردويل، القيادي في حركة حماس وعضو المجلس التشريعي عنها: "إن قرار عباس ليس سوى رسالة عتب للإدارة الأمريكية، على خلفية مواقفها الأخيرة من عملية التسوية"، ويستغرب البردويل تعرض عباس لحركته في خطابه. وقال: عباس وجَّه سهام العداء نحو حماس، في حين اكتفى بتوجيه عتب إلى الإدارة الأمريكية، وأضاف: "موقفه ليس حاسمًا"، أي: عندما قال: إنه سوف يستقيل أو يرفض ترشيح نفسه في المرة القادمة للانتخابات، "لقد ترك الباب مواربًا ولا داعي لتضخيم الموضوع". وانتقد البردويل انتقاد عباس لحماس، وقال : "إن مواقف عباس ليست حازمة فيما يتعلق بعلاقاته مع الاحتلال والولايات المتحدة"، أما مع "شعبه فهو حازم"؛ فقد هاجم حماس بعنف، واعتبر أن نهجها مدمر للقضية الفلسطينية، لكنه لم يفكر لحظة أن نهج المفاوضات كان "عبثيًّا أو مدمرًا". ومن جهتها لم تكتف فتح ومنظمة التحرير بالتصريحات، وإنما سارعت على تسيير المظاهرات الحاشدة في رام الله من أجل إثناء عباس عن قراره ومحاولة تضخيم الحشد الجماهيري المؤيد لعباس. ولكن هل سيستمر أبو مازن في ممانعته؟ أكبر الظن أن (أبو مازن) قد لا يستمر طويلاً في ممانعته، فهو يعلم أنه الاختيار الأول لأمريكا، والتي أقامت الدنيا على ياسر عرفات عندما احتجب في بيته وضغطت عليه من أجل استحداث منصب رئيس الوزراء له، ولكنه يريد ممارسة نوع من الضغط اللطيف على أمريكا بعد أن صرحت على لسان وزيرة الخارجية كلينتون بأن وقف الاستيطان ليس شرطًا لعودة المفاوضات. كذلك يريد أبو مازن ممارسة ضغوط على الدول العربية لتقوية موقفه أمام حركة حماس، فالأطراف الإقليمية تعلم أن غياب (أبو مازن) عن الساحة يعني صعودًا لحماس وتعزيزًا لموقفها في غزة، خاصة وأن اختيار خليفة ل (أبو مازن) في رام الله لن يمر على خير، بل سيخلِّف جروحًا على الساحة الفتحاوية لكثرة الطامعين في خلافته. أيًّا كان الاختيار.. وأيًّا كانت النهاية.. فإن (أبو مازن) وإن كان لابد راحلاً فإن للشعب الفلسطيني عليه حقًا أن يعرف إجابة الآتي: 1. ما الذي قدمته أوسلو وتوابعها للقضية الفلسطينية؟ وأين ذهبت أموال السلطة الفلسطينية؟ 2. من الذي قتل ياسر عرفات وتآمر عليه لإنهاء حياته بتلك الطريقة؟ 3. ما الدور الاستخباراتي الذي قامت به مجموعة رام الله أثناء الاعتداء الإسرائيلي الأخير على غزة؟ 4. ما حقيقة أن (أبو مازن) بنفسه يمارس ضغوطًا إقليمية من أجل استمرار الحصار على غزة؟ نريد إجابات منطقية، وبعد ذلك فالرجل ملك نفسه في أن يحدد مصيره... إما البقاء.. أو الرحيل. المصدر: الإسلام اليوم