بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية بأغلبية مريحة، وتشكيلها للحكومة الفلسطينية، كان عليها مواجهة حصار شامل من الداخل والخارج، الهدف منه إفشال حكومة حماس، وضرب الحركة نفسها. ولكن حصار الداخل ومعركته، ربما تكون بنفس أهمية حصار الخارج ومعركته. والعلاقة بين حركة فتح وحركة حماس قبل الانتخابات كانت واضحة المعالم محددة المواقف، فحركة فتح تبنت مشروع التسوية منذ اتفاق أوسلو، وحركة حماس عارضت هذا المشروع وانحازت لخيار المقاومة، وكان بين الحركتين ما كان، فكان بينهما ما بين التسوية كخيار أخير، والمقاومة كخيار وحيد. وعندما جاءت حركة حماس بتلك الأغلبية الواضحة في الانتخابات التشريعية، وشكلت الحكومة، أصبح الصراع أيضا بين خيار المقاومة وخيار التسوية، أو نقول خيار الاستسلام. فالحقائق على أرض الواقع تكشف لنا كل يوم من أيام حكومة حماس، عن عمق التأثيرات التي تركها خيار الاستسلام على بنية السلطة الفلسطينية، وعلى المنتسبين لأجهزة السلطة، وعلى أداء أجهزة السلطة. ففي الواقع يظهر منذ الأيام الأولى لحكم حركة حماس، إذا جاز التعبير، أن السلطة ليست إلا كيانا يعبر عن ثقافة خيار الاستسلام، بكل ما تعنيه الكلمة من معاني. ولخيار الاستسلام أوجه عديدة، ولكن وجه الفساد هو الوجه السائد، وليس كل الفساد هو سرقة للمال العام، بل الكثير منه نوع من التربح، ربما يكون في إطار القانون. فقد تحولت السلطة الفلسطينية إلى شركة اقتصادية يديرها ويستفيد منها أعضاء وقيادات حركة فتح، وتمثل بالنسبة لهم مورد الرزق، وسبيل العيش. وكأن السلطة الفلسطينية بأجهزتها ومواردها والتبرعات التي تصل لها، قد تحولت إلى غنيمة حرب بعد سنوات النضال الوطني، وقبل بداية سنوات الاستسلام الوطني، أو تسليم الوطن. إن خيار الاستسلام كان بثمن، ولكن الثمن لم يكن تحرير الوطن أو إرادته، بل كان الثمن بالمال، والربح المباشر، والمكانة والوظيفة. لقد ظهرت صورة للأجهزة الأمنية، بعد تسلم حماس للسلطة، يمكن أن نقول أنها صورة عصابة تستولي على الأموال من قطع الطريق، وتتربح من حمل السلاح. وربما تكون هذه الصورة سلبية وبغيضة، ولكنها تقارب الحقيقة ولا تبتعد عنها. فالسلاح لم يكن من أجل الشعب الفلسطيني، بل من أجل حماية السلطة التي تنازلت عن حقوق الشعب الفلسطيني، وحماية خيار الاستسلام، وهو خيار الأرض في مقابل المال. فعندما وصلت حركة حماس إلى السلطة وشكلت الحكومة، لم نجد السلاح الفلسطيني الرسمي للسلطة الوطنية الفلسطينية في حماية حكومة حماس، ولم نجد أنه خاضع لتصورات الحكومة الجديدة عن الأمن، ولا هو مكلف أساسا بتحقيق الأمن، بل وجدنا أجهزة أمنية تقوم بنشر الفوضى وتوسع دائرة العنف حتى تضع حركة حماس في مأزق. وهنا يتضح أن سلاح الأجهزة الأمنية الفلسطينية، والتي يفترض أن يكون في خدمة الشعب الفلسطيني، هو في الواقع موجود لخدمة المجموعات المسيطرة على السلطة، وموجود لحماية مصالحها، وحماية سيطرتها على السلطة ومواردها. ولذلك وظف السلاح الرسمي في أعمال غير مشروعه وغير قانونية، من أجل إسقاط حكومة حماس، حتى تستعيد نخب خيار الاستسلام السلطة التي فقدتها بإرادة الجماهير. والمسألة هنا لا علاقة لها بالتداول السلمي للسلطة، بل تجعل هذا التداول مستحيلا، فالمجموعة المسيطرة على السلطة الفلسطينية من حركة فتح، لها مصالح متشابكة بين بعضها البعض ومع أعضاء الحركة، وكل هذه المصالح سوف تنهار إذا تركت حكومة حماس تمارس دورها الكامل. فبدون السيطرة على كل أجهزة السلطة، سيحدث خلل كبير في حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية. ويبدو أن فتح قد تداخلت تماما مع جهاز السلطة الفلسطينية، ولم تفرق بين الحركة والسلطة، وهو ما تحاول فتح أن تتهم حماس به. والصراع ليس على القوة والنفوذ، وليس بسبب التربح والمصالح الشخصية المتشابكة داخل أجهزة السلطة، بل أن الصراع بين فتح وحركة حماس يقوم أساسا على الصراع بين خيار الاستسلام وخيار المقاومة. فالنتيجة التي حصلت عليها حركة حماس في الانتخابات كانت لصالح خيار المقاومة. والمقاومة ليست فقط بالسلاح، بل هي بالسلاح والسياسة، وبكيفية مواجهة الأزمات. وحركة حماس بعد أن شكلت الحكومة، بدأت تمارس دورها بأسلوب مختلف تماما عن حركة فتح، ولعل أهم ما ميز حركة حماس، أو حكومة حماس، الحملات الشعبية من أجل جمع التبرعات للشعب الفلسطيني. وهي حملات ارتكزت في الواقع على الخيار الجماهيري، أي خيار المقاومة، وقامت أساسا على رؤية واضحة تؤكد على أن خيار المقاومة هو خيار الأمة، وأن الأمة مستعدة لدفع ثمن هذا الخيار. وظهر هنا أن خيار التسوية أو الاستسلام هو خيار الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني، كما أنه خيار الاتحاد الأوروبي، ولهذا فإن الغرب هو من يدفع ثمن خيار الاستسلام، وتصل تلك الأموال لمن يقدر على الاستسلام. لهذا فالمعركة بين فتح وحماس ليست مجرد معركة بين من كان في الحكومة ومازال في السلطة ويريد استعادة الحكومة أيضا، ومن أصبح في الحكومة لأول مرة، ولكنها بين خيارات إستراتيجية. لهذا نعتبر المعركة بين فتح وحماس، معركة ليس لها حل توافقي، ولا تنتهي بالتحالف أو المصالحة، بل تستمر ويكون لها دلالتها التاريخية، فهي صراع بين خيارات، ولا ينتصر في النهاية إلا خيار الأمة، وحماس جاءت بخيار الأمة، وعليها الدفاع عن هذا الخيار، بالسياسة والسلاح، وهي في الحكومة أو خارجها. [email protected]