تعانى مصر مخاضًا عسيرًا في ظل تخبط مرحلة انتقالية تنسلخ فيها الشخصية المصرية من شرنقة أجبرت عليها، تحاول أن تستفيق من سبات عميق غطت فيه لعقود من الزمان، في خضم هذا الوضع المتردي على مختلف الصعد تتأرجح مصر بين معسكرين الأول يتمثل في الشرعية وهى النظام الحاكم الذي خرج من رحم انتخابات حرة شهد لها العالم بالحيدة والنزاهة إلا من بعض الخروقات التى لم يكن لها تأثير في سير النتائج. المعسكر الثاني يفترض أن يتمثل فى قوى المعارضة وأبرزها "جبهة الإنقاذ" بيد أنها ليست هكذا لأنها منذ طفت على سطح الأحداث طارحة نفسها كمعارضة حتى الآن لم تمارس أي صفة من صفات المعارضة السليمة بحسب الأنظمة الديمقراطية المتعارف عليها في دول العالم، فلم نر منها أي موضوعية فى الطرح ولا أي نقد بناء، بل معارضة على خط مستقيم بمنطق الغطرسة وفقه الأغلبية رغم أنهم أقلية. انتهجت الجبهة سياسة خلط الأوراق واستحضار أخطاء قديمة للرئيس واستعراضها والتذرع بها لإثارة الناس ضد النظام، رأينا من المعارضة جعجعة ولم نر أي طحينًا يذكر، على النقيض باشرت قوى حزبية أخرى مثل الحرية والعدالة والنور أعمال البر والبرامج التنموية من خلال التواجد مع الناس في الشارع وتيسير حاجاتهم الأساسية من قوافل للعلاج وأسواق لبيع المنتجات بسعر التكلفة وتنظيم توزيع أنابيب الغاز وتنظيف وتشجير الشوارع وخلافه مما يلمسه المواطنين فى ذكاء اجتماعي اعتادوا عليه وكان فرس الرهان لهم فى كل انتخابات سابقة وسيكون معولًا مهمًا فى نجاحهم في الانتخابات المقبلة. في ظل الصراع العلني بين المعسكرين تتعرض الثورة المصرية إلى مثلث يكاد يهدم أركانها متمثلًا فى فساد يعشش فى جهات ثلاث: هى الإعلام والأمن والقضاء. الملف الأول الإعلام ويرتع فيه كثيرون من رجال الأعمال الذين كانوا يعتاشون على فساد النظام السابق، ولا يطيقون رائحة الشرف ونظافة اليد، لذا يسخرون أجهزة إعلامهم للنيل من النظام الحالي عن طريق السخرية منه وتسليط الضوء على أخطائه البشرية العادية وأخطاء قراراته وتضخيم زلاته والافتراء عليه كذبًا وتضليل الناس بالباطل عنه وإشاعة الفوضى وتوفير الغطاء السياسى للمخربين وتصويرهم للناس على أنهم ثوار لا يجب التعرض لهم بأذى، والتعرض للسلبيات فقط وإغفال الإيجابيات تمامًا. من ضمن ألوان الفساد أن مبنى الإذاعة والتلفزيون يضم 43 ألف إعلامي وفني وموظف تبلغ رواتبهم 133 مليون جنيه شهريًا، رغم أن المبنى لا يحتاج أكثر من ثمانية آلاف فقط يديرونه بالشكل الأمثل "بحسب رأي وزير الإعلام الأسبق"، لذا يحتاج الإعلام إلى ثورة تصحيح. الضلع الجهة الثاني في مثلث خراب مصر هو الأمن الذى يضم قرابة ألف ضابط برتبة من عقيد إلى لواء تتحدى نجاح الثورة وتتضامن مع ضباط صغار برتبة نقيب وملازم لإفساد الثورة وتعمد إشاعة الفوضى وعدم إحكام السيطرة بشكل كامل على مفاصل البلاد في الأجزاء المتعلقة بأعمالهم، ولولا وجود كثير من الضباط الوطنيين الأشراف في هذا القطاع لخربت البلاد منذ أشهر عديدة، لكن الشرفاء غير المحسوبين على أي نظام يعملون بشفافية وحيادية يدافعون عن الوطن منحيين أنفسهم عن السياسة ومن يحكم ومن يكون؟ الضلع الثالث في مثلث خراب مصر يكمن في القضاء، وهو القطاع الذى يتحدث عنه الجميع بحساسية مفرطة ظن منها بعض القضاة أنهم منزهون عن النقد، وأن ذواتهم مصانة لا يخطئون حتى بات الحديث عن القضاء والقضاة في حكم المحرمات, والدخول إلى منطقة القضاء يعتبر محظورًا ومن المخاطر الكبرى، ولكن تتغير المحظورات بتغير الزمان وإفرازاته. للأسف سيطرت الأهواء والأمزجة والمنافع والمصالح والغايات على كثير من الأحكام وسيست معظم القضايا، واختلط الحابل بالنابل فأقحم قضاة كثر أنفسهم في الرؤى السياسية فجانبهم الحكم العدل، وتألفوا مع أرباب النظام السابق من رجال أعمال ورجال إعلام. لاشك أن في مصر عددًا غير قليل من القضاة الفاسدين والمفسدين، نبتوا في حقبة كان معظم من يصل فيها إلى منصة القضاء أصحاب الباب العالي من علية القوم، وليس ذوى العلم والشرف، ويعلم الجميع إنه إذا فسد القضاء فسدت الدولة. فعلى رئيس الجمهورية أن يعمل على إصلاح الجهاز القضائي جنبًا إلى جنب مع القضاة الشرفاء في المجلس الأعلى للقضاء، فإقامة قواعد وقوانين وأخلاق وقيم العدل أساس لمقومات الحكم العادل والرشيد الذي نادت به الثورة المباركة. الملفات الثلاثة التى تهدد بدمار مصر - الإعلام والأمن والقضاء - تحتاج ثورة عارمة تعيد ترتيب الأوراق داخل تلك الأجهزة الحساسة من دون الاعتماد على أهل الثقة فقط من أنصار الرئيس بل إن خير من استأجرت القوي الأمين، القوة سبقت الأمانة يا ريس.