ما رأيك في أن نكون دولة قانون.. قانون واحد يتساوى أمامه الكل بلا أي استثناء واحد لأي شخص، مهما كانت مكانته أو رفعة منصبه؟! أليس هذا ما تمنيناه جميعا؟! أليس هذا الذي من أجله قامت ثورتنا؟! أليس هذا الذي من أجله غضبنا؟ وخرجنا.. وثرنا؟! أليست هذه هي العدالة التي أرادها كل منا؛ سواء خرج إلى التحرير أو لم يخرج؟! أليست هذه هي العدالة؟! أليس هذا هو قوام أي أمة قادرة على النهوض وبناء المستقبل؟! لو أننا نتفق جميعا على هذا.. فما تفسيرك لما يحدث هذه الأيام؟! الكل يريد القانون وينادي به.. ولكن بشرط أساسي.. أن يحكم القانون لصالحه.. ولكن ليس إن أتى حكم القانون في غير صالحه.. الكل يلجأ إلى القانون منتظرا منه أن يسانده.. والكل يُشيد بالقانون وبالعدالة وبنزاهة القضاء، إذا ما أتى الحكم مطابقا لما أراد.. ونفس هذا الكل يثور ويغضب ويتشنّج ويصرخ بفساد القضاء، إذا ما أتى حكمه مخالفا لما أراد.. والقانون هو القانون.. والقضاء هو القضاء.. ولكن هوى النفس له نزعاته.. خبرتي الصحفية الطويلة علّمتني أن الكل يرى أن القانون يعمل لحسابه وحده.. كلما كتبت مقالا، يشير إلى خطأ ارتكبه شخص ما، ثار وهاج وغضب.. ولجأ إلى القضاء.. وفي كل مرة كنت أتلقّى إعلانا بقضية سبّ وقذف.. واحد وعشرون قضية سبّ وقذف واجهتها طوال عملي بالصحافة.. واحد وعشرين حكما بالبراءة.. هذا لأن مَن رأوا أن القضاء مسخّر لتحقيق غاياتهم، انتبهوا فجأة إلى أن القضاء لا يحابي أحدا.. ولا يستطيع أن يحابي أحدا.. ليس لأن القضاة منزّهون عن النزعات الشخصية.. ولكن لأن القضاة ليسوا أصحاب القانون.. ولا هم واضعو القوانين.. القضاة فقط يطبّقون القانون.. قانون واحد للجميع.. والدليل -بالنسبة لي- على هذا هو أن معظم من قاضوني كانوا من أصحاب السلطة والنفوذ.. ولم يصدر ضدي سوى حكم ابتدائي واحد، تمّ إلغاؤه في الاستئناف، واستبداله بحكم البراءة.. وذلك الحكم لم يأتِ لعيب في القضاة.. ولا حتى في القانون.. لقد كان بسبب احتيال محام، يعرف عنوان سكني جيدا، ولكنه أرسل لي إعلان القضية على عنوان أجهله.. ولم أتسلّم إعلان القضية بالفعل، ولهذا لم أحضر جلسة المحاكمة، وصدر الحكم.. وعندما علم محامي بالأمر اتخذ الإجراءات القانونية اللازمة، وتمّ استئناف الحكم ليأخذ القانون مجراه الطبيعي.. وبعد واحد وعشرين قضية كنت فيها كلها الطرف الأضعف، وحصلت فيها كلها على حكم بالبراءة، على الرغم من سطوة رافعيها وعلو مناصبهم، كان من الطبيعي أن أثق في عدالة ونزاهة القضاء.. وعن تجربة، بل تجارب شخصية.. وفي كل المرات ثار رافعو القضايا وهاجوا وماجوا؛ لأن الأحكام لم تأتِ لصالحهم، ولم تلبِّ رغباتهم.. وعلى الرغم من سطوتهم ونفوذهم، لم يبالِ القضاء؛ فالفيصل بيني وبينهم -وأيا كان شأنهم- كان القانون.. كل هذا حدث قبل الثورة.. ثم جاءت الثورة.. جاءت لتطالب بالحرية والديمقراطية والعدالة.. ولكن حرية من، والديمقراطية لمن، وأي عدالة؟! الكل لم يعد يطالب بالعدالة.. ولا حتى بالقانون.. الكل صار يطالب بما يريد.. فقط ما يريد.. فإما أن يحصل على ما يريده، حتى ولو كان مخالفا لكل قوانين الدنيا، أو يقيم الدنيا ويقعدها، ويهدّد بالكفاح المسلّح وإشاعة الفوضى والترويع والخراب والانتقام.. فأي قانون هذا؟! أهو القانون العادل؟! أم شريعة الغاب؟! ففي شريعة الغاب يُسيطر الأقوياء على الضعفاء، ويقهرون إراداتهم ويقمعون حريتهم.. ويلتهمونهم أيضا.. وفي شريعة الغاب لا حرية ولا ديمقراطية ولا عدالة.. فقط القوة.. والبقاء فيها فقط للأقوى.. حتى ولو كان الأقوى هذا ظالما قاسيا متعنّتا وبلا رحمة.. أما القانون العادل، فهو على العكس، يحمي الضعفاء من الأقوياء.. القانون العادل هو مَن يجعل الضعيف عنده قوي حتى يأخذ الحق له، والقوي عنده ضعيف حتى يأخذ الحق منه.. والبقاء فيه ليس للأقوى.. ولكن لصاحب الحق.. والحق وحده.. لهذا كنا نطالب بالقانون.. وبسيادة القانون.. وبحماية القانون.. وأي إنسان عاقل يدرك أن أمنه وأمانه الحقيقيين يكمنان في قانون عادل، يتساوى أمامه الجميع، ويخضع له الجميع.. ويدرك أنه حتى وإن حصل اليوم على أكثر ما يستحق بالقوة، فسيأتي يوما من هو أكثر منه قوة لينتزع منه حتى ما يستحقه.. ففي الدنيا افعل ما شئت، فكما تدين تدان.. ولو دعتك قدرتك على ظلم الناس، فتذكّر قدرة الله سبحانه وتعالى عليك.. هذا ما ينبغي أن تدركه.. وتفهمه.. وتؤمن به.. العدالة.. والقانون.. فإن لم تؤمن إلا بما هو في صالحك وحده؛ فقد قررّت أن تجعل القوة والعافية مقياسا للحياة، وتكون قد تركت قانون العدل، من أجل شريعة الغاب.. وعليك أن تتحمّل عواقب اختيارك.. فالحكمة القديمة تقول: "من عاش بالسيف مات بالسيف".. أما من عاش بالقانون -أيا كانت نتائجه- فسينمو في مجتمع آمن، ويتطوّر في مجتمع عادل، وينام آمنا مطمئنا؛ لأنه لا يحيا بشريعة الغاب.. ولن بقهره من هو أكثر منه قوة.. ولن يقمعه من هو أشدّ منه بأسا.. ولن يخضعه من هو أغرز منه عدة وعتادا.. لأن كل هؤلاء مثله، يحيون معه جنبا إلى جنب.. وبالقانون،،،