مهما ساءت الأوضاع فى بلادنا الآن، إلا أن المقارنة بفترات ما قبل الثورة لا وجه له على الإطلاق. منظومة القيم والأخلاق التي انتهكتها أجهزتنا الأمنية طيلة فترة المد القومى، من هتك لحرمات البيوت والمنازل، والتنصت على عورات الناس، وتعقبهم وانتهاك خصوصياتهم، أضاع الحريات العامة والخاصة على السواء. وهذا لا يمكن له أن يحدث بحال من الأحوال فى ظل حكم الإسلاميين مهما قيل عن سوء أدائهم السياسي. "بالطبع نحن نسير الآن في طريق استعادة الحقوق والحريات التي سلبتها الأحزاب القومية والبعثية وغيرها. لهذا فإنه مع تصاعد ثورات الربيع العربي، وصعود التيارات الإسلامية لدست الحكم، تخوفت قوى داخلية وخارجية من هذا الصعود. وفي هذا الإطار اتفقت غالبيتها على أن هذا الصعود سيتسبب فى وضع نهاية لحلم القومية العربية. فهل هذا الكلام صحيح أم خاطئ؟ لما كانت القومية بمثابة أيديولوجية، وتعنى حركة اجتماعية وسياسية، نشأت مع تصاعد مفهوم الأمة في عصر الثورات خلال القرن التاسع عشر، فكان من الطبيعى أن تأخذ طريقها للعالم العربى فى القرن العشرين. غذتها بريطانيا كرد فعل لحركة الجامعة الإسلامية والنفوذ العثماني في المنطقة، خشية من عودة مشروع الخلافة من جديد، وضربًا لأي علاقة بين الأتراك وولاياتهم العربية. تصاعدت خلال فترة الحرب العالمية الثانية حتى وصلنا لإنشاء جامعة للدول العربية عام 1945. وبلغت ذروتها خلال فترة الخمسينيات والستينيات حتى وصلت إلى مداها خلال حرب أكتوبر 1973. لكنها تراجعت مع عقد معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل سنة 1979. صحيح أن الأحزاب الناصرية والبعثية ظلت تؤمن بالمشروع القومي العربي، ومازالت، إلا أن التيارات الإسلامية اشتد عودها منذ السبعينيات. فقويت خلال فترة التسعينيات، وتصاعد تأثيرها حتى حصل معظمها على السلطة وتربع على سدة الحكم مع رياح التغيير التى هبت مع ثورات الربيع العربى. فسيطر الإسلاميون على الحكم فى مصر وتونس، وإلى حد ما فى ليبيا والمغرب. ومرشح أن يتربعوا فى كل البلدان العربية عليه. لكن الإجابة عن السؤال، هل أنهت ثورات الربيع العربي المشروع القومي لصالح المشروع الإسلامي؟ يقتضى تحليل الموضوع بعمق وروية. المفترض أن العروبة والإسلام لا يتعارضان، ومن ثم فلا يقتضي تصاعد أحدهما سقوطًا للآخر. غير أن فشل المشروع القومي العربي، نتيجة قصور الأحزاب التي تتبناه في الوصول للشارع العربي، والحصول على شعبية كبيرة، عبر الإخفاقات التي لحقت بتجربتها في الحكم، والتمايز بين القاعدة وقياداتها، أدى إلى ابتعاد الجماهير عن الأحزاب الداعية لها، وصعود التيارات الإسلامية وزخمها عبر الشارع العربى. هذا بالإضافة إلى أن وجود نماذج لدول إسلامية جيدة، كماليزيا وتركيا وإندنوسيا، تصلح كقدوة للعالم الإسلامي في التطور والنهوض الاقتصادي، جعل الفكرة الإسلامية تتغلب وتسود. أعتقد أن الشارع العربي لا يمكن أن يخذل التيارات الإسلامية وأحزابها أبدًا. وفى هذا الإطار سيكون للعامل الخارجي الدور الحاسم في ضرب المشروع الإسلامي مستقبلًا. وما نراه الآن من تشويه لبعض الرموز، ومحاولة لإسقاط المشروع الإسلامي، يصب فى هذا الهدف. فالعودة للمشروع القومي والقطري، والتحكم في العالم العربي من جديد، بدس الفتن بنفس الأدوات السابقة والمعروفة جيدًا، هي أساليب سهلة تعودت القوى الخارجية عليها من قبل عشرات السنين. ونهبوا من خلالها خيرات العرب ليل نهار، وخربوا ذهنية شعوبهم، وخلقوا انقسامات لا حصر لها. المشروع الإسلامي مفروض ألا يلغي المشروع القومي، لكن صعوبة إيجاد الغرب لمدخل في التعامل معه، يفرض عليه إيجاد مدخل مناسب لاستمرار السيطرة والتحكم السابقين. فهل يمكننا التنبؤ بمخططات الإفشال؟ أم أننا سنستسهل الانقياد ونلبي له ما يريد؟ الصعود الإسلامى بلغة الدين هو الهدف والغاية. وبلغة الحضارة والثقافة هو الأصل والأساس. وبحساب المصالح هو المنفعة والربح. وإذا تحدثنا بلغة المصلحة بعيدًا عن لغة الدين والثقافة، فهذا الصعود سيحقق للعرب ما لا يحققه أي صعود للتيارات الأخرى. فالعالم الإسلامي يحتاج لملايين المعلمين والدعاة والقراء المشتغلين باللغة العربية والقرآن والدين، لتعليم الناس أداء العبادات والشعائر الإسلامية على أحسن ما يكون. وعلى هذا لو استعدت البلدان العربية للأضلاع بتلك المسئولية فلن يكون هناك عاطل واحد. وعلى هذا لا يمكن للمشروع الإسلامي أن ينهي المشروع القومي أبدًا، بل سيقويه ويعضده. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة.