فى أجواء الاستبداد، عندما تعجز السلطة، أى سلطة عن حل مشكلاتها السياسية مع غضب الناس وقوى المعارضة التى تنغص عليها حياتها، ويضيق صدر السلطة بعناد المعارضة وإحراجاتها يكون بداية اندفاع تلك السلطة إلى بناء منظومة قمع قانونى وأمنى بهدف محاصرة المعارضة وتكميم أفواه الناس الساخطة، فتبدأ فى استحضار وتفعيل ما هو موجود من ترسانة قوانين القمع التى تكون شبه مجمدة، ثم تنشط من خلال مؤسساتها فى صناعة وخلق قوانين جديدة لزيادة الحصار وتمكين الدولة وأدواتها من إخراس الألسن وتدمير المعارضين سجناً وتنكيلاً، وبطبيعة الحال يسوقون كل ذلك باسم مصلحة الوطن وأمنه وأمانه، وتمضى تلك الجهود المحمومة فى أجواء هستيرية من التحريض والخطاب السياسى العصبى والمتشنج والعاجز عن إقناع الشعب بقدرته على إدارة البلاد وفق أسس ديمقراطية حقيقية تحمى الحريات العامة وحقوق الإنسان وتحتوى تيارات الوطن جميعها، وكان السادات عندما يستبد به الغضب من المعارضة التى تهينه وتحرجه يخطب بعصبية شهيرة ووعيد قائلاً: أحب أن أذكرهم بأن "الديمقراطية لها أنياب"، وعندما بدأ مبارك يحبط من المعارضة الشرسة وتنامى تشهيرها بقانون الطوارئ الذى يحكم به طوال عصره، بدأ فى دفع مؤسساته لصياغة منظومة قوانين جديدة عرفت باسم "قوانين الإرهاب" وهى أسوأ كثيرًا من قانون الطوارئ نفسه، وكان الهدف منها بالأساس ضرب وتصفية المعارضة القوية وبشكل خاص جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية المشاكسة، المفارقة أن نفس هذا القانون هو القانون الذى طالب الإخوان الآن بإعادة تفعيله من أجل مواجهة أزمتهم مع المعارضة وموجات الاحتجاج الحالية ضدهم، وطالبوا النائب العام بتفعيل المواد 86 و86 مكرر من قانون العقوبات، وبناء على ذلك أعلن رئيس المكتب الفنى للنائب العام المستشار حسن ياسين بأن عددًا من النشطاء والإعلاميين سيتم التحقيق معهم بموجب قوانين مكافحة الإرهاب، وشرح الرجل مفهوم الإرهاب من خلال المادة 86 من قانون العقوبات ونصها "يقصد بالإرهاب فى تطبيق أحكام هذا القانون كل استخدام للقوة أو العنف أو التهديد أو الترويع، يلجأ إليه الجانى تنفيذًا لمشروع إجرامى فردى أو جماعي؛ بهدف الإخلال بالنظام العام أو تعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر، إذا كان من شأن ذلك إيذاء الأشخاص أو إلقاء الرعب بينهم أو تعريض حياتهم أو حرياتهم أو أمنهم للخطر، أو إلحاق الضرر بالبيئة أو بالاتصالات أو المواصلات أو بالأموال أو بالمبانى أو بالأملاك العامة أو الخاصة أو احتلالها أو الاستيلاء عليها أو منع أو عرقلة ممارسة السلطات العامة أو دور العبادة أو معاهد العلم لأعمالها، أو تعطيل تطبيق الدستور أو القوانين أو اللوائح، فهو يعتبر وفقاً للقانون إرهابيًا"، وهذه المادة عندما يتم تفعيلها تعنى تحويل كل أعضاء جماعة الإخوان الذين حاصروا المحكمة الدستورية للمحاكمة بتهمة الإرهاب، وتحويل كل أعضاء جماعة حازمون الذين حاصروا مدينة الإنتاج الإعلامى للمحاكمة بتهمة الإرهاب وكل من ساروا إلى وزارة الدفاع أيام المجلس العسكرى للمحاكمة بتهمة الإرهاب، وجميع من تظاهر من الإخوان ومن غيرهم فى الاتحادية أو غيرها بنفس التهمة، وكل من شاركوا فى احتجاجات شوارع محمد محمود والقصر العينى والشيخ ريحان وقصر النيل وغيره، وجميع من تظاهروا فى السويس وبورسعيد والإسماعيلية والمنصورة والإسكندرية والمحلة، وجميع النشطاء الذين يقفون فى ميدان التحرير نفسه أو الطرق التى حوله أو يقذفون الحجارة على الشرطة إلى المحكمة بتهمة الإرهاب، وجميع مظاهر الاحتجاج فى الشوارع والميادين وجميع محافظات مصر الآن، بتهمة ممارسة الإرهاب لأنها فى حدها الأدنى لا تخلو من الترويع أو الإخلال بالنظام العام أو عرقلة السلطات العامة أو محاصرة المنشآت أو الإضرار بالبيئة، وباختصار عندما يتم تفعيل هذا القانون فهو يعنى أنه سيكون أمام القضاء المصرى أربعة ملايين مواطن على الأقل متهمون بالإرهاب. فى هذا الإطار أيضًا، بدأ الإخوان ينشطون هذه الأيام فى مجلس الشورى من أجل صياغة ترسانة قوانين جديدة لمواجهة خصومهم والمعارضة الشرسة فى الشوارع والميادين، بدعوى قوانين للبلطجة وقوانين للتظاهر، بشرنا صبحى صالح أنها مأخوذة من قوانين وضعها الاحتلال البريطانى لمصر!! فهناك إصرار على أن المشكلة ليست سياسية وإنما مشاغبات معارضة انتهازية وبلطجية وسوابق، وهؤلاء جميعًا لا يصلح معهم إلا ضرب النار ككلاب الشوارع أو السحل على الأسفلت أو أن تلقيهم فى السجون والمعتقلات وتريح البلاد والعباد من شرهم!! وبسرعة الصاروخ تتجه مصر بعد ثورة يناير إلى إعادة إنتاج منظومة القمع لستر عجز السلطة عن تحقيق التوافق الوطنى، وهى منظومة تنشأ عادة لمواجهة مشكلة محددة لكنها تصبح بعد ذلك قاعدة عمل سلطوى تتوحش تلقائيًا بشهوة الهيمنة والسيطرة التى لا تشبع لتصل مع الوقت إلى من كان يتصور ألا تصل إليه أبدًا، وبدون أدنى شك فإن مشهد سحل المواطن أمام قصر الاتحادية أو قتل الشاب محمد الجندى بتحطيم عظام ضلوعه وكيه بالنار وتكسير جمجمته فى معسكر الأمن المركزى يستحيل أن تفصله عن هذه الأجواء التحريضية من قيادات الإخوان التى تشحن الشرطة وأجهزة الدولة المختلفة لاستخدام القسوة مع المظاهرات وتهيئة الجنود نفسيًا للإقدام على ممارسات فضائحية على النحو الذى حدث والمرشح للتكرار بصورة أكثر دموية إذا استمر هذا الاتجاه.