لا يمكن لأحد الادعاء بأنه يفهم ما يحدث في مصر منذ الجمعة الماضية 25 يناير. لا الرئاسة أو الحكومة أو المعارضة. القتل المجاني الذي راح ضحيته العشرات في مدن القناة وخصوصًا بورسعيد صاحبة أكبر عدد من القتلى، والإصرار على هذه المدن بالذات لتأثيرها فى المجرى الملاحي لقناة السويس الذي ظل المصدر الوحيد المتبقي للعملة الصعبة عقب انحسار السياحة لأدنى درجاتها، ثم الإصرار على مهاجمة فندق سميراميس رغم فشل المحاولة الأولى وعدم تأمينه بعد تلك المحاولة، وعلاقة ذلك بإلقاء الرعب في السياح الموجودين أو الذين يفكرون في القدوم، فالواضح أنه من السهل امتداد الهجمات إلى فنادق أخرى في القاهرة والمدن السياحية. البلاك بلوك يمثلون علامة استفهام كبرى، فليس معقولًا أنهم تكونوا في يوم وليلة ونالوا كل ذلك القدر من التدريب على السلاح والقنص وشل المرافق الحيوية كالطرق الرئيسة وخطوط المترو والقطارات وإحراق مباني المحافظات ومجالس المدن وأقسام الشرطة. كنت أستبعد أن تتحول مصر إلى ميليشيات مسلحة تدخل البلاد في حرب أهلية، لكننا الآن في المحطة التي تسبق هذه الحرب مباشرة، ما يعني أننا أمام انهيار قد لا ننجح في تفاديه إن لم تقبل جميع القوى السياسية وأولهم مؤسسة الرئاسة والحزب الحاكم على تقديم تنازلات كبيرة أو مريرة. موجة العنف ستغتال أمن الجميع إن لم نفعل ذلك سريعًا ونتوافق على إدارة جماعية للأزمة الراهنة مع طرح الحسابات الضيقة جانبًا، فالوقت لا يسمح بالطمع في مناصب أرض تقترب بسرعة من أن تصبح أرضًا محروقة. مبادرات الحوار المتعددة لا تكفي وحدها بدون أن تكون الأطراف كلها مستعدة للتنازل، فأجواء الحرب لا تسمح بترف التردد أو سوء الظن في الآخرين. مبادرة البرادعي فرصة ذهبية لاستيعابه فقد أثبتت الأحداث أنه رقم صعب وضروري لتجاوز الأزمة، وجلبه إلى مركز الحوار لإنهاء العنف المبرمج الذي لن يتوقف بالقنابل المسيلة للدموع، سيكون استغلالًا للفرصة الأخيرة. لست مع الذين هاجموا مبادرة البرادعي لأنها تشمل وزيري الدفاع والداخلية بدعوى أنها تعيد العسكر إلى حلبة السياسة، فالعسكر حاضرون فعلًا ولولاهم لاحترقت مدن القناة وتعرض المجرى الملاحي لخطر التدخل الدولي لحمايته، وقد لوحت بعض الدول الكبرى بذلك. والداخلية تعيش في قلب الأزمة وتواجه شرطتها بدون أي سلاح وبالقنابل الدخانية فقط ميليشيات على أعلى درجة من التسليح والتدريب. المطلوب الآن استيعاب الجميع لحل أزمة دخلت التدويل فعليًا باستنكار الأممالمتحدة للعنف الدائر في مصر ودعوتها لإنهائه، وفي مرحلة قادمة سيكون التدويل أكبر وأخطر. التنازلات المريرة تكلل دائمًا المفاوضات السياسية بالنجاح، وهي مطلوبة بشدة في حالة مصر، فالأفق ضيق جدًا ولا نرى منه سوى شعاع نور ضعيف للغاية. لا داعي للتمسك بحكومة ضعيفة ومنهارة، فإذا كان ذلك مطلب جبهة الإنقاذ ومعها حزب النور (الإسلامي) كأساس للحوار، فهو ليس مطلبًا تعجيزيًا، بل سيكون شهادة نزاهة للانتخابات البرلمانية المقبلة. لا داعي لاستمرار النائب العام رغم نزاهته وجديته في ظل دستور جديد وضع أساسًا واضحًا لاختياره، فمهما نجح في مهمته ومارسها باستقلالية تامة سيظل وصف "النائب الخاص" لصيقًا به لأنه عين بواسطة رئيس الجمهورية وقبل أن يبدأ العمل بالدستور الجديد. وإذا كانت هناك موافقة على تعديل المواد الخلافية في الدستور، فمن السهل أن يبدأ ذلك فورًا دون إبطاء وطرحها لاستفتاء عام يسبق الانتخابات النيابية. جبهة الإنقاذ بدورها عليها تقديم تنازلات مقابلة بالدعوة إلى وقف أي حشود وتأييد إجراءات سريعة لوقف المظاهرات والاعتصامات وقطع الطرق وتهديد المرافق الحيوية وإدانة العنف بشكل واضح وصريح. أما حكومة الائتلاف فيجب أن يجري الاتفاق عليها بواسطة الجميع ويرشح رئيسها من خلالهم بحيث يكلفه رئيس الجمهورية بتشكيلها وفق أهداف متفق عليها في مقدمتها إعادة الأمن والاستقرار ودفع عجلة الاقتصاد والإشراف على الانتخابات القادمة. يبقى أن نحفظ لرجال الشرطة أرواحهم بأن نعيد لهم هيبتهم بتسليحهم وإعطائهم حصانة في مواجهة أعمال العنف التي تستهدفهم وتشل المرافق الحيوية. [email protected]