حتى الآن توجه المعارضة حديثها الى الحكم، بينما يفترض ان توجهه إلى الناس، حتى الآن يقتصر حديث المعارضة إلى الحكم على المطالبة بينما يفترض أن تكون سمته التحدى. حتى الآن لم تقدم المعارضة الى الناس تصورها للمستقبل وخريطتها - أو خرائطها المتنوعة والمتنافسة للطريق إليها. 1 ما هو جدير بالمعارضة، حتى تقنع الناس انها بالفعل جادة فى السعى الى تصحيح اوضاع هذا البلد، أن تتخلى عن لغة مفترض فيها ان تكون مدركة، مثل عامة الناس ان هذا الحكم لا يريد اصلاح نفسه، وحتى لو أراد فهو لا يستطيع. لا يريد الحكم إصلاح نفسه، وإن أراد لا يستطيع، لسبب يعرفه الحكم ويخشاه، هو أن الاصلاح اذا تحقق بوسيلة سليمة او قريبة من السلامة، سيدفع بأقطاب الحكم وكثرة الملتفين حوله، الى أقفاص الاتهام فى محاكم الجنايات بتهم مشينة، من قبيل اللصوصية والرشوة والتربح ونهب المال العام والاختلاس. هل يجرؤ احد من أقطاب الحكم أن يعلن عن ذمته المالية وان يقبل إخضاع اعلانه لتحقيق قضائى مستقل؟ هل يستطيع احد منهم ان يعلن مصدر ماهو مودع باسمائهم وأسماء الأنجال والأحقاد وجال الواجهات من اموال فى البنوك المحلية والأجنبية ومن حصص وأسهم فى شركات محلية وأجنبية، بل مصادر المال الذى اشتروا به ما يسكنون من بيوت وما يملكون من مصايف وبيوت قصور ريفية ومن سيارات وربما طائرات وما ينفقون من اموال على شركات الأمن الخاصة التى يحتمون بها؟ بل إنه لا تجاوز فى القول ان غالبية من يصفون انفسهم بيننا بأنهم رجال اعمال لا يستطيعون الكشف عن مصادر الأموال التى تقوم عليها تلك الاعمال، وعن الأسباب الحقيقية والصحيحة لحصولهم على التراخيص والتعاقدات وعلى ما يديرون من وكالات للشركات الأجنبية. وهؤلاء هم سند هذا الحكم ودعاماته. هل يجرؤ احد من هؤلاء - خارج الحكم وداخله- ان يعلن على الملأ بيانات رسمية عن حساباتهم، صادرة عن البنوك الخارجية التى يودعون فيها أموالهم؟ بل - ونقولها مباشرة وبلا وجل: ألم يكن أجدر بهذا السيد الرئيس ان يضمن تلك الكلمة الى التاريخ بيانا بمصدر الأموال التى جعلت من ابنه الاخير - علاء - واحدا من كبار رجال الأعمال؟ هذا سجل واحد لا يتعلق فقط بتلك القيمة الكبرى التى تحرص عليها أنظمة الحكم المحترمة، انما يتعلق ايضا بتكييف طبيعية الحكم، هل هو حكم رجال دولة فى نطاق منظومة قانونية يعلوها دستور، حتى ولو كان دستورا غير ديمقراطى، أم هو حكم عصبة استولت على البلد وراحت تديره، اى تسيء إدارته لحساب منافعها؟ ماهو جدير بالمعارضة هو ان يدور حديثها الى الحكم حول مثل هذه الموضوعات ان تواجهه بأسئلة لا يستطيع الاجابة عنها امينة او حتى غير أمينة، وهى أسئلة لا يصعب البحث عنها، منها، على سبيل المثال لا الحصر: * كم بلغ مجموع من اعتقلوا فى زمن الأمن والأمان الذى ميز حكم هذا الرئيس؟ وكم يبلغ عدد الذين تعرضوا للتعذيب؟ وكم عدد من انتهكت اعراضهم واعراض عائلاتم وهم رهن الاحتجاز فى أيدى الدولة الأمينة؟ وكم عدد الذين ماتوا تحت التعذيب.. وكم يبلغ عدد الذين اختفوا بعد أن اختطفتهم اجهزة امن رسمية من بيوتهم؟ هذا سجل واحد يتعلق بانتهاك نظام الامن والأمان للمواطنين: إنسانيتهم، كرامتهم، حريتهم وحقوقهم المدنية الأساسية؟ * كم بلغ عدد الذين حوكموا وحكمت عليهم محاكم عسكرية غير شرعية بعقوبات قاسية وصلت الى الاعدام وتنفيذه بتصديق من هذا السيد الرئيس، على زعم قيامهم بأفعال تنسب الى مفاهيم غائمة مثل: الإرهاب والإخلال بالأمن والنظام، السعى لتغيير نظام الحكم بالقوة، تعريض استقرار البلاد للخطر، ومقارنة هذا بعدد من اتهموا وحوكموا بتهم الاختلاسات الكبرى وإهدار المال العام فى مشروعات وهمية لا هدف لها سوى تنفيع المقاولين وتمويل شبكات الفساد.. وبعدد من اتهموا وحوكموا بتهم نهب اموال البنوك التى يمولها صغار المودعين بمدخرات حياتهم وغربتهم. وبعدد من اتهموا وحوكموا لارتكابهم أعمال التعذيب والانتهاك داخل السجون والمعتقلات الشرعية التى لها وجود رسمى على الورق وغير الشرعية التى لا وجود رسميا لها على الورق. إذا كان للمعارضة ان تسترشد بحكمة أن المبرر الوحيد للحرب هو النصر فيجدر بها أن تدرك ان الطريق الى النصر هو إدراك ان ما تتطلبه اوضاع البلد - التى انحطت الى الحضيض أو ما دونه - هو التغيير وليس الاصلاح. * * * 2 لكى تميز المعارضة نفسها عن الضغوط الخارجية على الحكم، والتى يفترض ماهو معروف عن توجهات قوى رئيسية فيها، أنها ضغوط لا يدفعها الحرص على مصالح البلد، إنما هو الحرص على انقاذ مصالحها هى مما يمكن ان يؤدى اليه غباء الحكم وما يمتلكه من صلف خوف اللص من الانكشاف، يجدر بالمعارضة ان تميز نفسها تمييزا واضحا ومقنعا عن تلك الضغوط. لا يكون هذا التمييز إلا بدخول أمور مثل تحرير الاقتصاد الوطنى من التبعية والاعتماد على الخارج - معونات وموارد - وتحويله من الوكالة للأجنبى وتغليب النزعة الاستهلاكية والخدماتية، إلى الانتاج الوطنى، والا بدخول السياسة الخارجية- ببعديها الإقليمى والدولى - الى لغة المعارضة وشعارات مظاهراتها وخطابات مؤتمراتها، على أن يجد هذا كله تعبيره الواضح فيما عليها أن تعلنه من برامج لمستقبل البلد يجدر بالمعارضة أن تدرك ان مجرد الجعجعة بالرفض القاطع والجازم للرقابة الأجنبية على الانتخابات لا يكفى وحده ولا يقنع بنفى ما يروجه الحكم الذى يعتمد على الأجنبى! عن استناد حركتها على ما تتعرض له البلاد! من ضغوط خارجية. ما تمس اليه الحاجة وما يقنع الناس هو ان تنشط المعارضة - بين الناس - لتكوين لجان شعبية لمراقبة الانتخابات هذا هو ما يبرر فى الحقيقة رفض الرقابة الخارجية. ويسرى الامر نفسه على قيمة وفعالية الدعوة الى مقاطعة الاستفتاء على التعديل الدستورى، اى لجان للمقاطعة واجراءات لاثبات تحققها. لا شك ان المعارضة تلاحظ ان الحكم ايضا يرفض الرقابة الخارجية، دون أن يقف هذا دليلا على وطنيته. حيث أن المطلب هو التغيير، فالسؤال ليس: تغيير ماذا؟ إنما هو التغيير الى ماذا؟ الناس - سواد الناس، يعرفون ماهو المطلوب تغييره، لا يحتاجون الى من يبصرهم به، فهم يعانونه كل يوم. إنما يحتاجون الى التعرف على هؤلاء الذين يطلبون ثقتهم، الذين يدعونهم الى ان يسلموهم مصائرهم، يحتاجون ان يعرفوا على أى نحو يعدهم هؤلاء تخليصهم مما يعانون، والى اى وجهة، وعلى أساس يطلبون ثقتهم بما يقولون. الحال أن قوى المعارضة جميعا، حتى الآن لا تطرح على الناس سوى ماهو متعلق ضمنيا بماضيها، لا تتحدث الى الناس عما تنشده لمستقبلهم، وكأن عليهم ان يستنتجوه من ماضيها. والحال، انه بعد أكثر من ثلاثين عاما من الجدب السياسى الذى أكل أخضر البلد ويابسه، لا يبقى شيء فى الذاكرة الجمعية الراهنة من ماضى تلك القوى، خصوصا انه قد محى من كتب التاريخ المدرسية. إن كل شيء من ذلك يبقى فى بعض الذاكرة الجمعية، فهو محصور فيمن جاوزوا السبعين من عامة الناس وبين تلك الفئة الملتبسة التى نسميها لمثقفين أو المعنيين بالشأن العام، بين الامناء من هؤلاء بعد ان خرب الجدب السياسى ذمم الكثير من أفرادهم ودمر ضمائرهم.، أصبح ما تحركه الذاكرة لونا من حنين الى ماض يستعصى على الاستعادة. الحال، بل الأمر العاجل، امر اليوم، بل امر الساعة واللحظة، ان تقول المعارضة للناس ماذا تنوى ان تفعل لمستقبلهم، الذى هو مستقبل البلد وان يكون هذا القول واضحا ومقنعا، أى ان يعبر عن معرفة حقيقية بالمشاكل والاحتياجات والمطالب، إن كان للناس ان يثقوا بحركة المعارضة فينضموا اليها باعدادهم الغفيرة وبعنفوان حركتهم، عندما يتحركون.