لا أخفي إعجابي بالكاتب الصحفي الكبير الأستاذ /محمد حسنين هيكل، من أوائل السبعينيات من القرن الماضي، باعتباره صحفيا وكاتبا مرموقا، يملك الكثير من خبايا المعلومات ،ودهاليز اللعبة السياسية المصرية والعربية،وكنا منذ وعينا السياسي، نتابع الأستاذ/ هيكل في عموده بجريدة الأهرام ( بصراحة) عندما كانت إذاعة لندن تنشر مقتطفات منه كل جمعة، وكان هذا المقال محط متابعة من الكثير من السياسيين العرب والأجانب في فترة المد القومي الناصري،عندما كان متربعا على عرش الأهرام من عام 1958،وحتى خروجه عام 1974، بعد اختلافه مع الرئيس الراحل أنور السادات بعد حرب أكتوبر ، وكنت مع الكثيرين، نتابع مقالات هيكل بين الفينة والأخرى في بعض الصحف اللبنانية،وأحيانا المترجمة منها من الصحف الأجنبية التي يكتب فيها الأستاذ هيكل، ثم تنشر بعد ذلك في كتب، ثم أيضا متابعاتنا لمؤلفاته العديدة التي أصدرها في العقود الأربعة الماضية،وكنا نعجب بقدرة الرجل وإمكانياته الكتابية الأرشيفية الكبيرة، في الاحتفاظ بهذا الكل الهائل من المعلومات للسياسية الناصرية على وجه الخصوص، والعربية بشكل عام ،فالرجل بحق يحتفظ بالكثير من الأسرار السياسية ، باعتباره مقربا من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ولا شك أن الرجل ينتمي إلى الفكر الذي انبثقت عنه ثورة 23 يوليو، وخاصة فكر قائد هذه الثورة، الرئيس عبد الناصر، وكان هيكل كاتب خطاباته، ومستشاره الإعلامي في فترة حكمه، ولكن يظل هذا الكاتب الكبير ذكيا في طرحه في بعض القضايا، ومهادنا أحيانا بما يراه يقترب من رؤيته السياسية عند الأخر المختلف، لكنه بحكم خبرته الصحفية، يتحدث بحذر ، بحيث لا تجعل المخالف يستفز من طرحه ، لكن مؤلفاته هى الأكثر استفزازا للمخالفين له في الفكر والسياسة، لكنها عادة ما تأتي بعد وفاتهم ! خاصة ما قاله عن الرئيس السادات في كتابه( خريف الغضب)، أو بعد انتهاء حكمهم، وهو ما قاله عن الرئيس المخلوع حسني مبارك في كتابه الأخير ( مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان). وبعد ثورة 25 يناير2011 وسقوط نظام مبارك، سكت هيكل فترة طويلة عن الحديث، عدا بعض التصريحات العابرة، وربما كان يستعد آنذاك لنشر كتابيه الأخيرين عن النظام السابق بعد سقوطه!!، وقبل أسابيع مضت، ومع موجة الاحتجاجات التي حدثت في مصر احتجاجا على الإعلان الدستوري المصري،وما برز عن ذلك من اعتصامات في ميدان التحرير،ثم التظاهر أمام قصر الرئاسة بالاتحادية من قبل بعض المعارضين لنظام الرئيس محمد مرسي، ظهر هيكل فجأة في إحدى القنوات التي يعتبرها البعض قناة مشبوهة، أو موالية للنظام السابق ( الفلول)،وتحدث هيكل كعادته في هذه القناة عن مصر الجديدة ( مصر إلى أين )، وكأنه يبشر بثورة جديدة على ثورة 25يناير، أو ربما توقع أن هذه الاعتصامات، أو الاحتجاجات التي ظهرت في الكثير من المدن المصرية وقتئذ،بأنها مقدمة لهذه الثورة على النظام القائم، ويعتقد بعض الخبثاء أن مجيء هيكل متحدثا إلى هذه القناة المعارضة،بشدة للنظام الحالي، بأنه كان مرتبا ومعدا مم قبل بعض التيارات السياسية المعارضة، كحشد سياسي من قبل هذه القناة لتهديد النظام، أو ارتباكه تمهيدا لسقوطه شعبيا، وحاول الأستاذ/ هيكل كعادته في البداية في المراوغة، حيث أنه دافع عن الرئيس د/ محمد مرسي بقوله أن شرعيته لا تزال باقية كما قال كما تحاول المذيعة بين الفينة والأخرى، أن تجره سريعا إلى هذا الرأي أو ذاك، لكنه في الحلقات التالية من الحوار في تلك القناة، حاول أن يجرد الرئيس مرسي والنظام والإخوان المسلمين ،الذي جاء مرشحا من قبلهم، وفائزا بعد انتخابات حرة ونزيهة، من أية قدرات،أو إمكانيات لإدارة البلاد،وكاد للأسف أن يقول أن الرئيس د/ محمد مرسي لا يصلح أن يكون رئيسا لمصر، وهذه مقولة أيديولوجية واضحة، لاختلاف الفكر السياسي بين الرئيس المنتخب،والكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل، فالمنطق والعقل والعدل يقول أنه يجب أن تتاح للرئيس الجديد الفرصة الكاملة، وان تتم معارضته بالوسائل المعروفة ديمقراطيا، وان تتحرك المعارضة لنقد النظام، كما هو متبع في الدول الديمقراطية، لكن الطريقة التي تتم الآن من المعارضة في الأشهر الماضية ، وحتى الآن، ليست وسائل قانونية أو سلمية كما ينظمها الدستور، فالهجوم على الشرطة ، وعلى المؤسسات والهيئات وقصر الرئاسة، أساليب تعسفية،ومخالفة لكل الأعراف، ولا تقترب من الديمقراطية من قريب أو بعيد، لكنها من وسائل النظم الشمولية المعروفة التي لا تعترف بصناديق الاقتراع، أو القبول بالتعدد الفكري، أو التنوع السياسي. والذي يبعث على الضحك أكثر مما يدعو إلى البكاء، ما قاله الأستاذ/ هيكل في الحلقة السادسة في القناة إياها، أن ( ما حدث من ثورات في العالم العربي (الربيع العربي)..كان مخططا له من قبل حلف شمال الأطلسي)!! وهذا القول للأسف يشكل اهانة كبيرة للشعوب التي قامت من اجل حريتها وكرامتها، لكن هل ما قاله هيكل في هذه القناة، يتناقض مع أقواله له أخرى مغايرة لهذه النظرة للربيع العربي ؟.. نعم هيكل ناقض نفسه مع هذا القول، ففي كتابه الذي صدر منذ عدة أشهر( مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان ، قال الأستاذ/ هيكل :( كيف استطاع هذا الرجل ويقصد الرئيس المخلوع حسني مبارك أن يجلس على رئاسة مصر ثلاثين سنة ؟!! ثم كيف استطاع شعب مصر أن يصبر ثلاثين سنة؟!! فيقول هيكل شارحا بالنسبة ل :" كيف" الأولى فالجواب عن سؤالها: أنه حظه طالما استطاع البقاء!! وأما " كيف" الثانية فجواب سؤالها: إنها مسئولية الشعب المصري كله لأنه هو الآخر استطاع بالصبر والصمت وإظهار السأم والملل أحيانا حتى جاءت ثورة 25 يناير 2011،وعندما لم يعد الصبر قادرا،ولا الصمت ممكنا،ولا الملل كافيا!!).صفحة (17،18). هذا ما قاله هيكل في هذا الكتاب، ويعني هذا أن الشعب المصري قام بالثورة في 25يناير 2011: ( عندما لم يعد الصبر قادرا، ولا الصمت ممكنا، ولا الملل كافيا!!) ، فأين هو الدور الذي لعبه الناتو في هذه الثورة ؟! وهل الناتو والغرب عموما سيجدون رئيسا مقبولا ومتفهما لمطالبهم،أكثر من الرئيس المخلوع؟! وهذا أيضا من يشير إليه في مقدمة هذا الكتاب إذ يقول: (والمنطق في محاكمة أي رئيس دولة أن تكون محاكمته على التصرفات التي أخل فيها بالتزامه الوطني والسياسي والأخلاقي، وأساء إلى شعبه، وتلك هى التهم التي أدت إلى الثورة عليه)؟!!إذن الثورة لها مبررات كما قال هذا الكاتب المتقلب في أفكاره، وهناك أوصاف خطيرة للرئيس المخلوع في ثنايا هذا الكتاب، ليست مجال حديثنا، وهذا ما يتناقض مع حديث هيكل لقناة (سي بي سي)، من أن حلف شمال الأطلسي هو الذي خطط للربيع العربي ؟! فلماذا يغّير هيكل رأيه، ويتناقض مع ما قاله في الحديث الصحفي الأخير عما قاله في هذا الكتاب ؟! هل هناك سبب مقنع لهذا القول الغريب لهيكل؟ أم أن تصدر التيار الإسلامي الواجهة الواجهة السياسية، بعد هذه الثورات،ونجاحه في الانتخابات التشريعية في العديد من الدول، جعله يغّير رأيه،ويتهم الغرب بالتخطيط لهذا الربيع العربي الذي أصبح فجأة ( ناتونيا) نسبة إلى الناتو؟!.. لا ندري مالهدف الحقيقي الذي يرمي إليه هيكل من هذا القول؟ لكن الذي نعتقده أن حديث هيكل في ذلك الوقت العصيب في أرض الكنانة، يجعل الأمر مريبا، خاصة في تلك القناة إياها التي كانت الصوت الأكثر حربا على النظام الجديد الذي جاء برضا الشعب ورغبته .. ولله في خلقه شؤون . كاتب وباحث عماني * أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]