من حسنات التحول الديمقراطي الذي يجري في مصر هذه الأيام أنه فتح مغارات الخفافيش والثعابين والعقارب.. وأطلق مرة واحدة ما في النفوس السياسية من طيور جارحة.. ساحقة. خلال الشهرين الأخيرين سمعنا ورأينا من الفرق والأحزاب المختلفة ما يكفي لإجهاض قبيلة من الأحلام والآمال وذبح مبادرات التغيير الممكنة من الآن وحتى سنة 5005 بعد الميلاد. المعارضة تتهم الحزب الحاكم بالديكتاتورية.. والحزب الحاكم يرد لها التحية بأحسن منها ويتهمها بالسلبية.. وفي الوقت الذي كان فيه يوم الاستفتاء على تعديل مادة اختيار رئيس الجمهورية في الدستور يوم عيد ومهرجان فرح في الصحف القومية كان يوم حزن وحداد وطني في الصحف المعارضة.. وما أن راحت بعض الصحف الخاصة تمارس نوعا من العنف غير المباشر بقوة السب والقذف ضد رموز قائمة ومؤثرة مستخدمة مانشتات حمراء صارخة.. صاخبة حتى وجد أنصار هذه الرموز أنفسهم في حالة تحريض مباشر على الرد بقوة العض واللكم وتقطيع الثياب وتشويه الخصوم. كل ذلك خرج من الصدور وعبر عن نفسه بطريقة فورية.. شرسة.. وقاسية.. ومؤلمة. ومهينة يصعب معها مد جسور التفاهم والحل الوسط الذي تحرص عليه القوى السياسية المختلفة عادة.. خاصة في الدول التي تجاوزت مراحل المراهقة الديمقراطية التي لا نزال فيها.. فلا يمكن أن يكسب أحد كل شيء. ولا يمكن لخصومه أن يخسروا كل شيء.. لا يمكن أن يأكل أحد بمفرده كل «الكعكة».. وإلا وقفت في الزور.. واحتاج إلى نصف مياه النيل على الأقل كي يبلعها.. بينما يترك خصومه يشربون من البحرين الأبيض والأحمر. إننا نعيش بالفعل حالة من المراهقة الديمقراطية.. لقد تأخر سن البلوغ السياسي بالنسبة لنا.. وعندما يقول البعض إن التعديل الذي جرى في الدستور هو الأول من نوعه منذ عهد الملك الفرعوني مينا موحد القطرين في مصر فإنه يقول في الوقت نفسه إننا بقينا في مرحلة الطفولة والرضاعة و«البامبرز» أكثر من خمسة آلاف سنة.. فما الذي تتوقعونه من أمة تأخر نضجها كل هذه القرون؟ لابد من ظهور بؤر عنف تحتل مساحة كبيرة من اللحم والجلد.. لابد من عنف يتلون مثل الحرباء.. ويتغير ويأخذ مختلف الأشكال.. عنف بالحبر الأسود.. والأحمر.. عنف باللسان.. عنف بقوة البلطة.. عنف بالنميمة.. عنف باللحم المفروم.. يقدم مع رقائق الثياب الممزقة.. وصلصلة الدموع والأحزان. والحقيقة أن العنف كان موجودا وبارزا ومسيطرا وفارضا نفسه على غالبية الأشياء في حياتنا.. لكن.. كل ما أصابه من تغير هو أنه قرر مؤخرا أن يخترق السياسة ويصبح له رأي في الشؤون التشريعية والحزبية والرئاسية.. لم يكن العنف غريبا عنا.. كان يسكن بيوتنا.. ويمشي في شوارعنا.. ويأكل طعامنا.. ويعاني من إحباطنا.. وعيوبنا. لم يكن يمر يوم إلا ونقرأ عن رجل ينتحر لأنه عجز عن سد حاجات أطفاله.. وفتاة تقتل أمها كي تتزوج في شقتها.. وتلميذ يقتل زميله بعد أن تبادلا الاتهامات بالغش وسوء السلوك.. وغيرها من الجرائم الغريبة التي فرضت نفسها على ضمائرنا فخدرتها ومسختها وشوهتها. وسبق هذا العنف الجنائي عنف اقتصادي.. مليارات الجنيهات من قروض البنوك نهبت وسرقت وهرب غالبية من فعلوا ذلك بها.. ومليارات أخرى اختلست من شركات الحكومة خصما من المال العام.. وسادت قيم الرشوة والمحسوبية والمحاباة الشخصية.. وهي أنواع أخرى من العنف. وإن كانت لا تحمل ضربا أو عضا أو طردا بالشلوت. ولم تكن مفاجأة أن نسمع أقبح الشتائم وأسوأها ونحن نتابع ما يجري على الساحة السياسية والحزبية.. فمثل هذه الشتائم مقتبسة من أفلام السينما.. فيلم «صايع بحر».. مثلا ومقتبسة من تصريحات رسمية شائعة.. مسؤول حكومي يفخر بأنه «صايع».. مثلا.. بخلاف ما نقرأ من عبارات لا يجوز أن تنسب للكتابة في بعض الصحف لأصحاب المقالات والهامات والمقامات. كل الطرق تؤدي إلى العنف بالقول والفعل.. باللسان والكيان.. بالجريمة والنميمة والصحيفة.. والمظاهرات العنيفة.. وقد كنت أتمنى أن يجري كل شيء بعد ضبط النفس.. وضبط القلب.. وتحكيم العقل.. إنني لست ضد المظاهرات.. فهي وسيلة تعبير مشروعة.. ولكنها.. في الدنيا كلها وصلت إلى درجة من الرقي والسمو جعلتها احتفالا شعبيا بمناسبة سياسية.. ففي الولاياتالمتحدة يسمح القانون بحمل اللافتات الغاضبة والوقوف أمام البيت الأبيض.. مقر الحكم.. أو الحديقة المقابلة له.. ولكن.. دون صراخ.. وفي بريطانيا تكون الحدائق العامة وأشهرها هايدبارك مكانا شبه مغلق يعبر فيه الناس عما يريدون كيفما يشاؤون.. وفي فرنسا تتحول المظاهرات العامة إلى مهرجانات للموسيقى والرقص بجانب التحريض على التعبير والتغيير السياسي.. أما في مصر فالمظاهرات تتشبع بعنف الكلام.. وكلما سكت الطرف الآخر.. ارتفعت حدة الكلام.. وكان الصمت وحده لا يكفي.. فإذا قرر الطرف الآخر الرد.. يكون العنف باليد والعصا والبطش هو العنف المقابل. لا مفر من مراجعة كل شيء.. لا مفر من إعادة النظر في كل شيء.. فنحن أمام مشاهد سياسية جديدة.. لا يجوز التعامل معها بالوسائل والطرق التقليدية.. وعلى كل الأطراف أن تستوعب ذلك.. فعندما تسود الفوضى.. فلا غالب ولا مغلوب.. ولا ظالم ولا مظلوم.. ولا كاسر ولا مكسور.. الكل مهزوم.. الكل خاسر.. ولن يبقى سوى وجه الله ذي الجلال والإكرام.