التردد والشك والحزن والإحساس بأنك لا تحيا حياة حقيقية كنت تتمناها كلها أعراض لمرض العصر الحديث (إدمان البدايات). مثل من يسير على شاطئ الحياة وكلما دخل بقدميه في مياهه الدافئة وشعر ببداية شعور جميل (بداية حب بداية عمل بداية بحث وعلم بداية تجربة حياة) تبدأ العذوبة وسحر البداية تأخذه عميقًا داخل بحر الحياة ولكنه سرعان ما يفاجأ بأمواج الصعوبات الهائجة وضربات الألم والمكابدة فيتراجع سريعًا إلى أمان الشاطئ ويترك بدايته المبشرة ويكتفي ببلل قدميه ويقف على الرمال مكتوف الأيدي يتأمل أولئك الشجعان الذين لم يهابوا الموج وتجاوزوا كل الصعوبات وهاهم بعيدًا يستمتعون بالسباحة العميقة في بحر الحياة. وهكذا تجد من دخل تجارب حب عديدة وفي كل مرة يكتفي بذلك الشعور العذب الساحر في أوله وعندما يبدأ مواجهة الاختلافات والخلافات وتحمل مسئوليات الحياة يتراجع مكتفيًا بهوامش الحب وبقاياه. تجد من يكتفي في دراسته بحفظ الملخصات وقصاصات الغش لكي يحصل على شهادة شكلية تقول إنه تعلم ولم يشأ أن يتكبد عناء الدرس والبحث والجهد في سبيل الحصول على علم حقيقي يجعله يدخل أعمق وأجمل مناطق بحر الحياة، تلك المنطقة التي تفتح أمام عقله آفاقًا بغير حدود وترفعه إلى مصاف أرقى فئات البشر (العلماء) يكتفي بشهادته المزورة ولا يحصل من العلم إلا على نفاياته. حتى التدين ذلك السلوك الراقي جدًا تجد من يكتفي منه ببعض المظاهر والعبادات ولا يتكبد عناء مجاهدة النفس وتصفيتها وتخليتها من القسوة والنزق ثم تحليتها بالفضائل والقيم، إذ سرعان ما يتراجع متجمدًا عند نقطة محدودة كانت بدايته التي لم يطورها أو يعمقها فصارت عبئًا عليه وهو عبء عليها فهاهو يجر قدميه بمحاذاة الشاطئ فلا هو سباح حقيقي في بحر المجاهدة ولا هو يمشي بعيدًا عن الشاطئ ويحزن عندما يتهمه الناس أنهم لا يعترفون به. أما الزواج تلك التجربة الحياتية العميقة جدًا فهو خير نموذج على ذلك المرض، ما إن يتم حتى تبدأ الزوجة في إعادة فرز وتقييم الزوج وكذلك يفعل هو متشبثين بمرحلة البداية مع أنهم من المفروض أن يكثفوا جهدهم في تجاوزها والانطلاق بعيدًا في اتجاه تقبل الآخر ثم التكيف معه ثم تشذيب وسنفرة الحواف الخشنة والجارحة لكليهما ليتم دمجهما معًا ثم التعاون على المزيد من تطوير العلاقة، لكن الغريب جدًا أن استمع كثيرًا لمن تزوجت منذ ربع قرن وصار أولادها وبناتها رجالًا ونساءً ومازالت تتشبث بمرحلة البداية الأولى للزواج فهي تفرز وتبحث عن العيوب وتعيد التقييم وتطالب بالرومانسية وحب الأفلام وكأن الزمن لم يمر والحياة توقفت بها عند نقطة البداية. يقولون إن الزمن يمضي ولكن الحقيقة أن الزمن باقٍ ونحن ماضون، والحياة أقصر من أن نضيعها في التسكع على الشاطئ وبناء قصور من رمال أوهامه، انزل البحر وتحمل مكابدة أمواجه ولا تخشى الغرق والتعب فسوف تصل للعمق ووقتها ستشعر بجمال وروعة الحياة الحقيقية، اِعمل بجد وكافح في سبيل زواج ناجح وتبني قيمًا حقيقية والتزم بها وأخلص لنفسك في أن تنال حظها في حياة نافعة ومشاعر عميقة وسباحة في عمق بحر الحياة.