أصبحت قضية تطبيق الديمقراطية،وآلياتها المعروفة، تشكل هاجسا مختلفا عند بعض النخب السياسية، بعد ثورات الربيع العربي التي اجتاحت بعض الدول العربية،كانت هذه النخب أكثر ما تتحدث عنه،هو قضية الديمقراطية وآلياتها، وضرورة أن تكون الأولوية لهذه الوسيلة الراقية غي عصرنا الراهن، والتي لن تسعد الأمم والشعوب إلا من خلال تطبيقها وفق الوسائل المعروفة، وقبول نتائجها،وضرورة الاتفاق على نبذ حكم الفرد، الذي برز عنه خلال ستين عاما، الاستبداد والقمع الإقصاء، وان المجتمعات العربية،لن تنهض، أو تتقدم إلا إذا طبقت الديمقراطية دون إقصاء لأي فصيل سياسي، وتشاء الأقدار أن تسقط الأنظمة الديكتاتورية، بالصورة المعروفة في بعض الدول ، ومنها مصر ذلك البلد العربي الكبير، وتوقع الكثيرون، أن تقبل كل الفصائل السياسية باللعبة الديمقراطية في مصر بعد الانتخابات النيابية والرئاسية ، لكون الجميع عانى من الديكتاتورية،وعانى هذا البلد العربي العريق، بإمكانياته البشرية والطبيعية من السياسات الخاطئة في مسارات عديدة ، التي قيل عنها الكثير ولن نضيف شيئا في هذا المجال الذي شبع نقاشا في السنتين الماضيتين. وفازت التيارات الإسلامية بعد الانتخابات البرلمانية، بأغلب المقاعد، ثم فازت بمقعد الرئاسة،بعد انتخابات نزيهة وشفافة شهد لها العالم كله بالنزاهة، بعد عقود طويلة غيبت فيها إرادة الشعب من التلاعب والتزوير الخ: لكن الفصائل السياسية الليبرالية والعلمانية،ضاقت ذرعا بهذه النتائج،وقامت بالتحرك السياسي السلمي العنيف أحيانا، من خلال المظاهرات والاعتصامات، لرفض النتائج، تحت مقولات عديدة، لا تتفق وما يقولونه قديما عن أهمية الاحتكام لصناديق الاقتراع ! بل أن بعض هؤلاء الذين كانوا يهاجمون المجلس العسكري، قاموا بتحريض المجلس، وعودته إن اقتضى الأمر للعمل على تغيير المعادلة السياسية، من خلال إلغاء نتائج الانتخابات ، أو الانقلاب على السياسي على النظام الحالي، الذي جاء بإرادة شعبية،والحقيقة أن هذه التراجعات من هذه النخب، تجلب الحيرة والاستغراب، والذهول في الوقت نفسه، على تناقضاتها الفكرية والسياسية، التي تنكرت تماما لما تقوله في الدراسات والندوات واللقاءات الصحفية وغيرها.فالبعض يعزو الرفض إلى تجذر الفكر الشمولي في مصر لفترات طويلة، مما جعل البعض يستغرب أن يستأثر فصيل واحد بالحكم ! وهذا مخالف لقواعد الديمقراطية تماما، فالديمقراطية تعطي الحق للذي يفوز بالأغلبية البرلمانية، أن يقوم بتشكيل الحكومة وتطبيق برنامجه السياسي الذي أعلنه للشعب قبل الانتخابات، والمعارضة عليها أن تنقد سياسات هذا النظام الذي فاز ،وفق الأسس المتبعة والاستعداد للانتخابات المقبلة، وليس منها الاحتجاجات، والاعتصامات، ولا المطالبة بسقوط النظام، أو التحريض عليه بالعصيان الخ: لكن لماذا فازت هذه التيارات الإسلامية في الانتخابات بالمغرب وتونس ومصر بالأغلبية البرلمانية ؟ وهذا هو السؤال الذي تحتاج منه التيارات الليبرالية والعلمانية واليسارية، أن تتحرك ، لكسب القبول الشعبي لها، وهذا هو الأسلوب الأمثل الديمقراطي . وقد اختلفت التحليلات لأسباب ونتائج هذا الفوز الكبير للتيارات الإسلامية،وتفوقها على أحزاب وقوى سياسية ، متجذرة في المشهد السياسي العربي منذ عدة عقود طويلة ، بعضها ربما تجاوز ال80 عاماً كحزب الوفد المصري ، وغيرها من الأحزاب الكبيرة والعريقة في تونس والمغرب . فالبعض أرجع هذا الفوز إلى دعم الغرب،وتأييده إلى هذه التيارات ، بهدف خلق الفوضى والانقسامات في وطننا العربي، كالتي صاغها المحافظين الجدد بعد احتلال العراق ، وأن ما حصل مجرد مؤامرة غربية لتغيير المشهد لأهداف واستراتيجيات معدة سلفا من حكم المحافظين في الولاياتالمتحدة .وأرجع البعض إلى أن هذه التنظيمات والتيارات الإسلامية، استطاعت أن تنظم نفسها جيدا، وتقترب من الشعب، وأن تعين المواطنين، في أوقات الأزمات والأحداث العصيبة كالحروب والزلازل وغيرها، ولرفعها كذلك شعار النزاهة والشفافية والتوظيف السليم للتنمية الخ وأعتقد أن الرأي الأول ، مجرد توقعات، وتحليلات غير صحيحة في أذهان أصحابها، ربما لإراحة أنفسهم من عناء التفكير الجاد المنطقي والواقعي لكل المتغيرات التي حدثت، ولم تجري المراجعة الحصيفة للتحولات في عالم اليوم بمعطيات متأنية ، لكون هؤلاء، كما أرى ،لا يزالون أسرى إعلام الحرب الباردة بين المعسكرين الكبيرين في ذلك الوقت ، قبل سقوط أحدهما ، وانهياره، وانقسامه إلى دول متعددة ، أما الرأي الثاني، فأرى أنه اقترب نوعاً ما من الحقيقة، في تصوير شعبية ونجاح هذه التيارات بفوزهم الكاسح في هذه الانتخابات، لكن الذي نراه أن سبب تراجع النخب، والتيارات العلمانية والليبرالية واليسارية، فإنها ابتعدت عن واقع الشعوب كثيرا، وخسرت بالتالي أصواتها.فالكثير من هذه الأحزاب والتيارات الفكرية، تعاقب عليها الفشل لعقود طويلة، سواء في السلطة، أو في المجال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وازداد هذا الفشل مع الحياة المعيشية الصعبة في هذه الدول، وسلبيات الخطط والبرامج وفسادها الإداري، التي وضعتها الأنظمة التي سقطت في ثورات الربيع العربي . ولم تقم هذه القوى بالنقد الذاتي ، والمتجذر لهذه السياسات وتصحيح سلبياتها ، والتي شابها الكثير من الفساد والمحسوبية وغياب الرقابة والمحاسبة ، ثم أعدت هذه الأنظمة أبناءها للتوريث ، فكان هذا الأمر بما تقول الأمثال مثل: (القشة التي قصمت ظهر البعير ) !! ولا شك أن التيارات الإسلامية استفادت كثيراً من أخطاء هذه الأنظمة المتراكمة ، وظهور الفساد المتعدد المناحي ، والفشل في كل قطاعات التنمية . إضافة إلى أن هذه الأنظمة تعاملت مع هذه التيارات خاصة في مصر وتونس، بقسوة وبقمع وتهجير، وزجت بالآلاف في السجون خلال العقود الثلاثة الماضية، فكسبت هذه التيارات بفضل هذه السياسة الحمقاء تعاطف شعوب معهم، وأعطتها أصواتها في هذه الانتخابات. الذي نراه جديرا بالمراجعة، أن تقبل هذه النخب بما أفرزته نتائج صناديق الاقتراع، وأن تتحرك إلى الشعب صاحب الحق في الاختيار، أما الجلوس في الأبراج العاجية، والتنظير الفكري، دون الحراك السياسي الجدي، فان النتائج، ستكون مثل سابقاتها. ولله الأمر من قبل ومن بعد *كاتب وباحث عماني أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]