لا يلتقي اثنان في القاهرة اليوم إلا ويسأل أحدهما صاحبه: إلي أين نحن ذاهبون. ويحدث هذا في المهاتفات وفي اللقاءات عبر (غرف المحادثة) علي الشبكة الدولية للاتصالات والمعلومات، وفي كل صورة من صور التواصل بين الناس. ولا أعني بالقاهرة في مطلع هذا الكلام العاصمة، وإنما أعني بها الوطن الذي تعبر عنه وترمز إليه. ولا أعني باليوم الزمن المعروف وإنما أعني المرحلة الحالية من حياتنا السياسية والثقافية والاجتماعية، تلك المرحلة التي بدأتها مفاجأة الرئيس محمد حسني مبارك بطلب تعديل المادة 76 من الدستور والتي ستستمر حتي انتهاء انتخابات مجلس الشعب، قرب نهاية العام الحالي، علي الأقل!. ولا أعرف أحداً استطاع أن يجيب سائله بعلمٍ يقيني أو قريب من اليقين، وإنما هي تخمينات وتكهنات تنتجها الخبرة والتجربة، أو الخيال أو الهوي والغرض... ثم لا يدري أحد من الذي يخطئ ومن الذي يصيب! وهكذا تري أكثر الناس في حيرة حقيقية لا يستطيعون تصور ما هو آتٍ ولا استعداد له، ولذلك يتكرر السؤال دون أن يظفر السائل بجواب. |||| جهة واحدة وضعت يدها علي بداية الطريق الصحيح لتصور الإجابة علي هذا السؤال المحير؛ تلك هي السلطة القضائية التي بادر ناديها، نادي قضاة مصر، بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق عن إشراف القضاة علي الاستفتاء علي تعديل الدستور الذي جري في 25/5/2005. وأقول أن تلك هي بداية الطريق الصحيح لمعرفة مآل أحوالنا السياسية والاجتماعية والثقافية لأن ما جري في هذا الاستفتاء من حيث الصدق ونقيضه، ومن حيث الشفافية وعدمها، ومن حيث التعبير عن الحقيقة الواقعية أو عن الأمنيات الخيالية للدولة والحكومة وحزبها الوطني، ما جري وقيل في ذلك كله هو التجربة لما سوف يجري ويقال في الانتخابات الرئاسية ثم في الانتخابات البرلمانية القادمتين. لقد شكل نادي القضاة لجنته برئاسة المستشار الجليل محمد حسام الدين الغرياني، نائب رئيس محكمة النقض، وعضوية نائبين آخرين لرئيس المحكمة نفسها هما المستشار محمد ناجي دربالة والمستشار طلعت عبد الله، ورئيس محكمة استئناف هو المستشار هشام جنينة، ورئيس محكمة هو أحمد فتحي قرمة. وأصدرت اللجنة تقريرها بتاريخ 21 جمادي الأولي 1426ه الموافق 28/6/2005 فوقع في عشر صفحات وانتهي إلي أربع توصيات هي: 1- دمج اللجان الفرعية بحيث لا يتجاوز عددها ربع العدد الحالي (العدد الحالي هو 54350 لجنة فرعية، والمطلوب أن تصبح 13500 لجنة علي الأكثر). 2- إجراء الاقتراع علي عدة أيام. 3- إسناد رئاسة جميع اللجان العامة والفرعية للقضاة. 4- إسناد رئاسة اللجان الرئيسية بمقار المحاكم الابتدائية (غرف العمليات) إلي قضاة عاملين بدوائر محكمة النقض ومحاكم الاستئناف. |||| ولأقُل - ابتداءً - إنه بغير تنفيذ هذه التوصيات، وبغير صدور مشروع قانون السلطة القضائية المعدل حسب ما قررته الجمعيات العامة المتتالية لقضاة مصر فإن جواب السؤال الذي يدور الآن علي الألسنة سيكون أننا ذاهبون إلي الفوضي وفقدان الشرعية الدستورية والقانونية وهما عاملان كافيان لتمزيق أي مجتمع وإهلاكه، فإن الناس كما قال الشاعر لا يصلحون فوضي ولا سَراةَ لهم، و سراة إذا جهالهم سادوا. وقل مثل ذلك أو أسوأ منه في الحال التي يسود فيها الغشاشون والمزورون والكاذبون والفاسدون... إلخ فإن كل هؤلاء أضرُّ علي الأمة من الجهال. وهذا الكلام لا يُقبل بلا بينة، ولا يجوز لأحد أن يلقيه علي الناس بغير دليل. وقد جاءت البينة والدليل في تقرير اللجنة القاضية التي شكَّلها نادي القضاة، وهو تقرير يجب أن يُنشر كله علي أوسع نطاق، وأنا أجتزيء منه الحقائق الآتية: أولاً: عدد اللجان الفرعية بلغ 54350 لجنة قُسِّمت علي 329 لجنة عامة. ونُشِرَ نقلاً عن غرفة العمليات المركزية بوزارة العدل أن 11125 عضواً من الهيئات القضائية شاركوا في الإشراف علي الاستفتاء وأن المعتذرين لأسباب مَرضيَّة كانوا عشرين فقط. ولو صحَّت هذه البيانات - وهي غير صحيحة - لكانت نسبة رئاسة القضاةِ للجان الفرعية لا تجاوز 20% وهي نسبة - وبفرض صحتها - لا تسمح بالقول بأن الإشراف القضائي كان كاملاً. وهذه البيانات غير صحيحة لأن جميع قضاة محكمة النقض ومحاكم الاستئناف ومَن في درجتهم من الهيئات الأخري لم يُسند إليهم أي عمل من أعمال الإشراف علي الاستفتاء. وعدد هؤلاء يزيد علي ثلاثة آلاف عضو، ولم يزد عدد اللجان الفرعية التي رأسها أعضاء الهيئات القضائية بالفعل عن 5% من عددها الأصلي. ثانياً: رأس كل لجنة عامة أحد رجال القضاء بدرجة رئيس محكمة بصفة أصلية، وسُمِّيَ معه ثلاثة أو أربعة من درجته بصفة احتياطية. وقد استحال علي من أراد من رؤساء اللجان العامة الأصليين والاحتياطيين المرور علي اللجان الفرعية التابعة له: إما لكثرتها أو فقد زاد عدد بعض اللجان الفرعية التابعة للجان العامة علي 400 لجنة (!) وإما لبعدها مكاناً بعضها عن بعض بحيث لم يكن ممكناً الذهاب من مقر اللجنة الرئيسية والعودة في أثناء وقت الاقتراع. ثالثاً: ثبت من مراجعة كشوف الناخبِين في اللجان الفرعية أن عدد الناخبين في بعض هذه اللجان يزيد أو ينقص عما ورد قرينها بالكشف الصادر من مديرية الأمن بتاريخ 30/4/2005 مما ينبيء عن أن تلك الكشوف جري تعديلها بعد هذا التاريخ وهو أمر غير جائز في قانون مباشرة الحقوق السياسية. رابعاً: لم يزد عدد اللجان الفرعية التي يرأسها أعضاء الهيئات القضائية علي 5% من تلك التي بلغ عددها نحو خمسة أضعاف عدد أعضاء الهيئات القضائية مجتمعين (!) ورأس باقي اللجان موظفون من جهات مختلفة. وجمِّعت اللجان الفرعية التي رأسها القضاة في مكان واحد (مدرسة أو قسم شرطة ...) بعيداً عن اللجان الفرعية الأخري في معظم الحالات. خامساً: في اللجان التي رأسها القضاة كان الإقبال علي التصويت قليلاً جداً، والعديد من هذه اللجان لم يحضر أمام رئيسها أحد من الناخبين، ولم يتجاوز متوسط الحضور في سائر اللجان 3% من المقيدين فيها وعلي سبيل المثال فإن 12 لجنة رأسها قضاة في محافظة الجيزة لم يحضر أحد في 11 لجنة منها (!) وحضر في لجنة فرعية رأسها قاض أربعة ناخبين فقط، وعلق علي ذلك أحد ضباط المباحث ممازحاً رئيس اللجنة إحنا مش عايزين نتعب البهوات كفاية علينا اللجان التانية !! سادساً: عندما تمسَّك معظم القضاة الذين رأسوا اللجان الفرعية بتطبيق قانون مباشرة الحقوق السياسية في شأن إجراءات الاقتراع، أثار ذلك استياء كثيرين من رجال الإدارة (رؤساء مجالس المدن ومأموري الأقسام والمراكز وكبار ضباط الشرطة وبعض رؤساء المحاكم الابتدائية وبعض المحامين العامين). وقام بعض رؤساء المحاكم الابتدائية بتغيير القضاة الذين رفضوا الانصياع لأوامرهم المخالفة للقانون بأن عيَّن آخرين لرئاسة اللجنة الفرعية بقرار مكتوب فيه أن سبب الندب الجديد هو شعور الأولين بإرهاق(!!) سابعاً: طلبت إحدي السيدات من قاضٍ رأَس لجنة فرعية بالإسكندرية بعد أن قدَّمت إليه نفسها علي أنها من قيادات الحزب الوطني أن تقوم بملء بعض بطاقات الرأي، فلما رفض، اعتذرت وانصرفت. ولم يعلم القاضي ما إذا كانت قد عاودت المحاولة أمام لجنة أخري أم لا(!!) ثامناً: لم يراع في موظفي الحكومة الذين رأسوا أكثر اللجان الفرعية أية شروط تتعلق بالدرجة الوظيفية أو المؤهل الدراسي أو حُسن السمعة. فقد رأس بعض اللجان معاونو خدمة (فرَّاشين)، ورأس بعضها حملة مؤهلات متوسطة، وقابل رئيس لجنة من وكلاء النائب العام رئيس لجنة فرعية كان قد حَبَسَهُ احتياطياً علي ذمة قضية تزييف عملة، وتجدد حبْسه 45 يوماً ثم أُفرِج عنه بكفالة مالية ولم يتم التصرف في التحقيق بعد(!!) تاسعاً: اللجان التي رأسها غير القضاة جاوزت نسبة الحضور للتصويت فيها 90% وبلغت في كثير منها 100%. والوصول إلي هذه النسبة يفترض أن جميع المقيدين أمام تلك اللجان بقوا علي حالهم منذ ضبط الكشوف في ديسمبر 2004 إلي موعد الاستفتاء في 25/5/2005؛ فلم يمت منهم أحد (!) ولم يمرض منهم أحد (!) ولم يسافر منهم أحد (!) ولم يحل بين أحد منهم وبين الحضور حائل من عمل أو كسل (!) عاشراً: أنهت لجان كثيرة من التي رأسها غير القضاة عملها قبل الموعد المحدد لذلك ببضع ساعات. وانتقل بعض هؤلاء الرؤساء مع صناديقهم إلي اللجنة العامة قبل موعد انتهاء الاقتراع بساعة كاملة(!!) وعندما سأل بعض القضاة عددا من رؤساء تلك اللجان عن سبب هاتين الظاهرتين كانت إجابتهم علي أنواع: فمنهم من تهرَّب من الإجابة وفرَّ هارباً من مقر اللجنة العامة؛ ومنهم من أطرق إلي الأرض ولم يرد؛ ومنهم من أطرق باكياً؛ ومنهم من قال: يا سعادة البيه أنا راجل غلبان ؛ ومنهم من قال: أنا عبد المأمور ؛ ومنهم من قال: الضابط هددني بالاعتقال ؛ ومنهم من قال: ما إحنا كل مرة بنعمل كده ؛ ومنهم من قال: الضابط قال لي: خلَّصْ، أنت مش ناقص بهدلة (!!) حادي عشر: لاحظَ أحد رؤساء اللجان العامة أن رئيس لجنة فرعية أبطل عدداً كبيراً من بطاقات إبداء الرأي، فلما راجعه في ذلك قرر له أنه أبطل البطاقات المؤشَّر عليها بعدم الموافقة(!!) ثاني عشر: أراد بعض القضاة الذين رأسوا اللجان العامة إثبات حالة الصناديق عند فتحها لفرزها في اللجنة العامة، فتبين من هذه الصور أن بطاقات وُضِعت مفرودة علي حالتها الأصلية دون طيٍّ، وبطاقات وُضعت مربوطة علي هيئة حزمة مما يدل علي أن تلك البطاقات لم توضع من الفتحة العليا للصندوق بل وُضعت فيه وغطاؤه مفتوح(!!) وأظهرت صور أخري رئيس لجنة وهو يعبث بصندوق الاقتراع، وأشخاصاً غير معروفين يفعلون الشيء نفسه في حديقة اللجنة(!!). لذلك، ولغيره مما سأتناوله في المقال القادم إن شاء الله خلصت اللجنة القضائية إلي: أنه ليس صحيحاً ما قيل من أن أكثر من أحد عشر ألف قاضٍ اشرفوا علي الاستفتاء؛ وأن رؤساء اللجان العامة لم يكن لهم رقابة أو إشراف حقيقي علي أعمال اللجان الفرعية؛ وأن 90% من اللجان الفرعية أسندت رئاستها إلي موظفين لا استقلال لهم ولا حصانة وتعرضوا للترهيب من رجال الشرطة، وأفلتت تلك اللجان تماماً من رقابة القضاة وكانت مسرحاً لانتهاك القانون وتزوير بيانات حضور الناخبين وبطاقات إبداء الرأي؛ وأن بعض رؤساء المحاكم الابتدائية عاق محاولات القضاة الإشراف علي اللجان الفرعية، وأعان علي انتهاك القانون في شأن عضوية تلك اللجان . وهذه النتيجة الأخيرة تظهر بجلاء أهمية الربط الذي يشترطه القضاة بين تعديل قانون السلطة القضائية وبين ممارستهم واجبهم في الإشراف علي الانتخابات الرئاسية والنيابية. وهو ما سنتناوله بتفصيلٍ في الأسبوع القادم بإذن الله. ---- صحيفة الاسبوع المصرية المستقلة في 18 -7 -2005