الإعلام الغائب بناء الصورة الداخلية والخارجية لأي دولة يعتمد علي سياسة واضحة، تنحاز للأهداف العليا للأمة، وتعبر عنها تعبيرا دقيقا، يلتقي مع أحلام وطموحات المواطنين لأنفسهم ولوطنهم وأمتهم، لكن نجاح هذه السياسة يبقي مرهونا بوسائل الاتصال بين السياسيين والمواطنين، أي نقل السياسة من الغرف المغلقة للشارع، لتصبح السياسة مادة جماهيرية يعرفها الناس.. وهو أمر يتوقف في الأول والآخر علي وسائل الإعلام. الدور الإعلامي الناقص في رسم صورة مصر الداخلية والخارجية يعيدنا بالضرورة إلي مصر في زمن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر حلت أمس ذكري ميلاده فقد بني ناصر منظومة إعلامية ناجحة، توافقت وتفاعلت مع الأهداف العليا للدولة المتمثلة في قيادة العالم العربي عبر القومية العربية، وهي بالمناسبة ليست اختراعا ناصريا، لكنها فكرة تلقفتها وبلورتها وصاغتها وجعلتها الدولة المصرية مشروعها في ذلك الوقت. ولأن وسائل الإعلام نهضت بدورها كما ينبغي، فقد كان الحكام العرب يعملون ألف حساب للرئيس جمال عبد الناصر، لأنهم يعلمون مدي قدرة إذاعة مصرية واحدة هي صوت العرب علي تحريك الشارع العربي، بما قد يؤدي إلي زلزلة عروش الحكام.. وبفضل هذا الإعلام المحترف الناجح، بنت مصر صورة مثالية لها في العالم العربي، وكانت الجماهير العربية تحتشد في الشوارع لمشاهدة عبدالناصر كلما زار عاصمة عربية! لكن الإدارة الإعلامية الناجحة لا تتوقف عند حدود إذاعة أو فضائية تحدث تأثيرا كبيرا في الجماهير، وإنما عبر سلسلة متشابكة من العلاقات بين المسئول عن الإعلام المصري، وعدد من الصحف في مختلف الدول العربية والأوروبية، وعلاقات متينة مع الكثير من رؤساء التحرير والكتاب، تشمل التواصل الشخصي الدائم والزيارات المبرمجة، وإمدادهم بالمعلومات اللازمة لخلق حالة من التأثير غير المباشر في الرأي العام عبرهم. كان لدي مصر أيضا ولا يزال آليتان مهمتان للتأثير في الرأي العام الداخلي والخارجي، الأولي هي هيئة الاستعلامات، ومنها يفترض أن تخرج الآلية الثانية وهي الأدوات الإعلامية المصرية في الخارج عبر الملحقين والمستشارين الإعلاميين.. لكن فيما يبدو أن هذه الآليات لم تعد فاعلة، وليس لها تأثير يذكر لا في الداخل ولا في الخارج علي السواء. والخلاصة التي ينبغي التأكيد عليها أن صورة أي دولة تتحقق عبر ذراعين متناغمين هما الدبلوماسية والإعلام، وليس معقولا أو مقبولا علي سبيل المثال أن يحدث تعارض او تصارع بين الذراعين، كما حدث في أزمة مباراة مصر والجزائر بأم درمان حينما غيب التليفزيون الحكومي سفير مصر في الخرطوم عن شاشاته، بينما كان من المفترض أن يكون أحد الوجوه التي تخرج علي الناس يوميا من القاهرة.. وبالتالي ستتلقفه وسائل الإعلام الأخري. كتبت في هذه السلسلة من المقالات اقتراحات لإعادة بناء صورة مصر في الداخل والخارج، وهي محض اجتهادات، وبالأكيد يوجد آخرون لديهم رؤي مختلفة، وما تحتاجه مصر الآن أكثر من أي وقت مضي، هو مجلس للتفكير في إعادة بناء هذه الصورة، يضم مسئولين في الوزارات المعنية، وخبراء في الترويج السياسي والإعلامي، لبحث أسباب ما لحق بصورة مصر من سلبيات، واقتراح حزمة سياسات توضع موضع التنفيذ. والأهم آلية التنفيذ والصلاحيات الممنوحة لها، والجهة التي تخضح لها، بعيدا عن الأداء الوزاري الضعيف الذي كان أحد أهم وأبرز أسباب ما لحق بصورة مصر.. وهؤلاء الوزراء يعرفون أنفسهم جيدا.. والناس أيضا تعرفهم.. لأنهم ارتكبوا أكبر جريمة في حق مصر.