﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [سورة الحج: 41] يخبرنا التاريخ عن صعود حضارات وهبوط بعضها امتد لقرون وغيرها وامتد لسنوات ولا يخلو عصر من دراسة لسنن صعود وهبوط الحضارات وشهد القرن التاسع عشر والعشرين وقرننا هذا الواحد والعشرين دراسات كثيفة وموسعة وكتابات لقمم علمية حول هذا الموضوع ولا توجد دولة أو أمة جادة في ممارسة دور حضاري علامي إلا ويجب أن تهتم بسنن الله في صعود وهبوط الدول والحضارات. وفي إطار التغيرات التي طرأت على مصرنا الحبيبة وما تمر به الآن من مراحل حاسمة في دورتها الحضارية الجديدة والتي نرجو الله فيه التوفيق والسداد لجميع المصريين الذين يساهمون في هذه المرحلة، لابد لنا من التأمل في التاريخ وفي مصادر هويتننا لبناء حضاري متسق مع هويتنا وثقافتنا حتى لا ينتهي المشروع الحضاري إلى الفشل بسبب مفارقته للأرضيه التي ينبغي أن يبنى عليها. وفي هذا الإطار أحببت أن أشارك بخواطر في هذا البناء الحضاري وأولى ما نبدأ به مصدر الهوية الحضارية مصر وسائر العالم العربي وهو القرآن الكريم. الأية التي بدأ بها هذا المقال تضع ثلاث محاور للفريق الذي حمله الله عز وجل مسئولية إدارة البلاد هذه المحاور هي: إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وهي محاور أعمق بكثير من المعنى الاصطلاحي المباشر الذي يتبادر للذهن. إقامة الصلاة هي عمل فردي الغرض منه- بجوار الغرض العبادي المجرد- هو أن تنأى عن الفحشاء والمنكر فهذه الإقامة للصلاة تبني الفرد وتحوله لطاقة إيجابية خيرية، فالانتهاء عن الفحشاء والمنكر هو إيقاف الطاقة السلبية الهدامة وتحويلها لطاقة إيجابية والقريب أن هذا المحور تتناوله آليات أخرى عند البلاد الأخرى لا تنطلق من الإسلام أرضية لها بتعويض ذلك بما يسمى برامج التطوير للذات فهذه البرامج في غايتها تهدف لتحويل الطاقة السلبية للأفراد إلى طاقة إيجابية فاعلة للبناء. ويأتي المحور الثاني وهو إيثار الزكاة ليمثل في عمقه تقوية الروابط الاجتماعية وتضييق الفجوات الاجتماعية بين الطبقات وكذلك تفعيل دور المجتمع المدني فالزكاة وفي معناها الاصطلاحي دفع جزء مفروض من مال الغني للفقير ولكنها في المعنى الأعمق هي ما سبق. أما المحور الثالث هو الإطار القانوني الذي يحدد الخطأ والصواب وتفعيل المجتمع للإلتزام بهذا القانون ومراقبته وهو المعنى العميق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالمجتمع لايستطيع ممارسة دوره الرقابي إلا بوضوح رؤيته "للمعروف" و "للمنكر" وهذا هو الإطار القانوني اللازم وضعه ثم يأتي الأمر والنهي ليمثل الممارسة الفعلية والرقابة لتطبيق القوانين. وختامًا فهذه المحاور الثلاثة من تطوير الذات وتفعيل التكافل الاجتماعي ووضع القوانين وتفعيل المجتمع في مراقبتها هي منظور القرآن الكريم لبناء الدولة على أسس سليمة فاعلة تسهم في استدامة دورتها الحضارية وعظم أثرها في مواطينيها وفي الإنسانية كلها وفقنا الله لخدمة البلاد والإنسانية وتمثل روح الرسالة النبوية الخالدة وهي "الرحمة للعالمين".