يتوجب علينا أخلاقيًا ووطنيًا أن نتوجه بالشكر والإكبار لموقف المجلس الأعلى للقضاء أمس عندما قرر تحمل المسؤولية الوطنية تجاه مصر والمشاركة في الإشراف على الاستفتاء الدستوري المقبل، وكان هذا الموقف بمثابة رصاصة الرحمة على جبهة التهييج في نادي القضاة برئاسة أحمد الزند الذي وضح أنه يورط القضاة في وحل السياسة بأسوأ صوره، وأنا على قناعة تامة الآن بأن كثيرًا من القضاة الذين ساروا في ركبه وأعلنوا امتناعهم عن المشاركة يشعرون بتأنيب الضمير لهذا الموقف العاطفي والعشوائي الذي لا يليق برجال العدالة، وقد أعلن التفتيش القضائي أمس أن أكثر من ستة آلاف قاضٍ حتى الآن قدموا طلباتهم للمشاركة في الإشراف على الاستفتاء الدستوري، وهذا يعني أن الوعي يعود بقوة إلى محراب العدالة، والإحساس بالمسؤولية انتصر في النهاية على أصوات الابتزاز والإثارة وألاعيب الفلول التي يفتعلها بعض رجال نادي القضاة، وأعتقد جازمًا أن كلمات كل من المستشار حسام الغرياني في مقابلته لرئيس الجمهورية والمستشار محمود مكي نائب رئيس الجمهورية لقناة الجزيرة، أسهمتا بقدر وافر في إقناع القضاة بأنهم أمام استحقاق وطني نزيه وشريف وأن كل الغبار الذي يثار حول الدستور الجديد محض أكاذيب وتصفية حسابات سياسية ينبغي أن يتنزه القضاة عن التورط فيها، لقد كان المستشار محمود مكي مقنعًا للغاية وهو يتحدث عن الدستور الجديد وأنه الأفضل في تاريخ مصر، وحتى إن لم يحقق كل آمالنا فإنه نقلة كبيرة وحاسمة في مسيرة الحرية، كما أن الدستور الجديد نفسه وضع آلية بسيطة وسهلة لتعديله، تتمثل في طلب سبعين عضوًا من البرلمان لطرح تعديلات دستورية، وأظن أن هذا رقم بسيط للغاية، كما أوضح أنه مندهش لمن يعترضون على الدستور الجديد، وكانت لفتة رائعة منه عندما قال إن من أفضل ما في الدستور الجديد هو إلغاء منصب نائب رئيس الجمهورية، رغم أن هذا البند يعني إخراج مكي نفسه من مؤسسة الرئاسة، وكانت هذه إشارة منه إلى أنه يقول ما يقول حسبة لله وإخلاصًا للوطن بعيدًا عن أي مصلحة شخصية أو منصب أو جاه يبحث عنه، بل إنه يدافع عن الدستور الجديد رغم أنه ضد مصلحته الشخصية كنائب رئيس الجمهورية، هذا موقف نبيل ومؤثر ومقنع في نفس الوقت، كان المستشار مكي في هيئته وهدوئه ورزانته وتوازنه وعقلانيته وجديته يمثل نموذجًا مشرفًا للقضاء المصري يمنحك الإحساس بروح العدالة وهيبة القاضي، وإذا قسته بهيئة المستشار أحمد الزند مثلًا في كل ما سبق ستجد أنك أمام شيء آخر مختلف تمامًا لا يمنحك أي إحساس بالهيبة أو الرزانة أو الحكمة أو الجدية أو روح العدالة. أيضًا كان المستشار حسام الغرياني رئيس الجمعية التأسيسية بالغ التأثير في القضاة في كلمته التي قالها عندما سلم مسودة الدستور لرئيس الجمهورية، كما أن عاطفته الصادقة التي غلبته فيها دموعه لا يمكن أن تخرج إلا من شخص يؤمن بما فعل ويؤمن بأنه قدم هدية لوطنه، والغرياني كان قبل عدة أشهر رئيسًا لمجلس القضاء الأعلى ورئيسًا لمحكمة النقض، أي أنه الشخصية القضائية الأرفع في مصر، التي لم تشبها شائبة على مدار عشرات السنين من تاريخها في محراب العدالة، والرجل له احترام كبير وهيبة في أوساط القضاة، وكان زاهدًا في التأسيسية منذ البداية وعرض على أعضائها التخلي عن منصبه وحذرهم بأنهم قد يندمون على اختياره من فرط جديته وصرامته في إدارة العمل، الغرياني لا يمكن أن يضع توقيعه على باطل، ولا يمكن بعد هذا العمر أن يبيع ضميره لكائن من كان، وبالتالي كانت كلماته في ذلك الحفل تملك من العمق والتأثير ما أرسل رسالة لزملائه وتلاميذه أيضًا في مؤسسة العدالة بأنهم أمام عمل وطني كبير جدير بالاحترام وجدير بأن يشاركوا في إنجازه والإشراف عليه. كمواطن مصري، أكرر شكري وعرفاني لسيادة المستشار حسام الغرياني على ما قدم لي ولوطني من إنجاز طالما حلمت بنصفه أو ربعه، والشكر والعرفان لكل من شاركوا في إنجاز هذا الدستور الجديد، بمن في ذلك الذين انسحبوا بعد ذلك، لأنهم شاركوا بالفعل وبذلوا جهدًا كبيرًا على مدار خمسة أشهر على الأقل أنجزوا فيها أكثر من 90% من مسودة الدستور، وكل الشكر والتقدير والعرفان للسادة أعضاء مجلس القضاء الأعلى وآلاف القضاة الشرفاء الذين صححوا الأوضاع وأكدوا الأمل في أن مصر تتجه إلى الديمقراطية والعدالة ودولة المؤسسات وسيادة القانون، والشكر موصول لتلك "الثلة" من نبلاء القضاء المصري الذين حملوا شعار "قضاة من أجل مصر" الذين تحملوا الكثير من الطعون والتشكيك وحملات التشهير، حتى كلل الله جهودهم وصبرهم بالنصر للوطن وليس لأشخاصهم. [email protected]