تعيش الإنسانية ارتباكاً حقيقياً عصف بالعالم كله بعد الحادي عشر من سبتمبر / أيلول 2001 حتى اليوم، حيث لاتزال المشكلات تتوالى بسبب هذه العاصفة، وما جرى بعدها من حروب، سيما الحرب على أفغانستان والعراق واحتلالهما ثم التفجيرات التي حصلت في لندن والتي يصرّ البعض من المحللين على أنها حدثت بسبب دخول بريطانيا الحرب مع الولاياتالمتحدة. ثم جاءت بعد ذلك الدعوات الأمريكية لإصلاح العالم العربي على اعتبار أن المشكلات القائمة في بعض الدول سببها غياب الديموقراطية... الخ. صحيح أن الإصلاح والتجديد والتطوير من المطالب المهمة في حياة الأمم والشعوب، وضروراتها لا خلاف عليها في مجمل هذه الأطروحات والمعطيات والمستجدات التي يجري الحديث عنها، لكن الذي لا نستطيع قبوله أو الاقتناع به مسألة الفرض والقسر والإلحاق تحت أي مسميات فضفاضة، سيما عندما تأتي من خارج الواقع العربي وبطريقة إجبارية غير قابلة للنقاش أو المراجعة. والإشكالية ان الغرب يطالب بتغيير المناهج في البلاد الإسلامية وحذف بعض الآيات لأنها كما يعتقدون تدفع البعض إلى الإرهاب والعنف، لكن الذي يتجاهلونه أن الدين الإسلامي كما يقول د. عبد الكبير العلوي هو من وحي الله عز وجل. فنحن لم نصنعه حتى نستطيع أن ندخل تغييرات عليه ولذلك فإن الإلحاح علينا بطلب التغيير، من أجل مسايرة الإنسان المعاصر فيما يريده،هو ناتج عن سوء فهم لطبيعة الدين. وسواءً كانت هذه الدعوات الأمريكية أملتها الضغوط الخارجية أو اقتضتها الاحتياجات الجديدة لمجتمعاتنا، أو استجابة لمتطلبات المرحلة، فإنها فوق ذلك مطلب شعبي عارم لإبعاد الاحتقان السياسي والإرهاب المتعاظم الذي أصبح في بعض الدول مشكلة حادة، تحتاج إلى حلول أخرى غير الحل الأمني الوحيد. والكلام الكثير عن الإصلاح الذي تحدثنا عنه نحن العرب منذ عدة أشهر كان مجرد رد فعل على مبادرة مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الأعظم، أو غيره من المشاريع الاصلاحية. فالإصلاح الداخلي لا خلاف عليه كأحد المطالب الإيجابية الناجعة لأي إصلاح ناجح في مجتمعاتنا العربية. لكن الإشكالية أن هذا الرفض لأي إصلاح خارجي أو دعوة خارجية للإصلاح في عالمنا العربي لم تقابله حتى الآن خطوات أو تحرك عربي نحو الإصلاح الداخلي الاختياري، فإذا كان الإصلاح الخارجي لا يمكن أن تتقبله الشعوب لأسباب فكرية وثقافية وحضارية، فإن تحركنا للإصلاح الذاتي، هو الحل البديل للمشاريع الخارجية والتجسيد الحقيقي لرغبات الشعوب التي يهمها التوافق الإيجابي مع أصحاب القرار لإبعاد أي دعوات خارجية لفرض الإصلاح. ومن الحق أن نذكر أن بيان مجموعة الثماني الصادر منذ عدة أسابيع، كان معتدلاً وإيجابياً في ظاهره تجاه مسألة الإصلاح من الداخل، وهذا يشكل اعترافاً واضحاً بأن الإصلاح المفروض والقسري على الشعوب لن يحقق الإصلاح المنشود، وكان هذا البيان يرفض الدعوة الأمريكية للإصلاح التي ظهرت في محتوياتها نغمة الأبوية والإلحاق لفرض الأنموذج الغربي الثقافي والحضاري، وعدم الالتفات إلى الخصوصيات الحضارية بغض النظر عن المسميات سواء كانت ديمقراطية أو شورى. وهذا استجابة لثقافة الآخر وميراثه الحضاري واختياره الحر في ما يتعلق بالإصلاح الداخلي الذي كما قلنا أصبح من الضرورات والمطالب المهمة في عالمنا العربي. فعلينا كعرب التحرك سريعاً تجاه الإصلاح حتى نثبت للعالم أننا جادون في الإصلاح الحقيقي والمبدئي بعيداً عن الضغوط والمحاولات البرانية التي لاترتاح إليها الشعوب. وهذا ما يجعل خطوات الإصلاح الآن مقبولة داخلياً ومدعومة خارجياً ولنا في وثيقة الشراكة لمجموعة الثماني ما يسهم في هذا الجانب بصورة إيجابية. ان أوروبا تتغير إيجابياً تجاه العرب وقضاياهم العادلة، وعلينا أن نستثمر هذا التغيير أو على الأصح هذا التوجه لإعادة الثقة من جديد مع هذه الدول المؤثرة لدعم قضايانا خاصة في فلسطين والعراق. نعم هناك مراجعة إيجابية لشرائح مهمة في الغرب تجاه العرب والمسلمين، وعلينا أن نقوم بالاتصال والتحرك لتغيير الصورة السلبية (المصنوعة) التي غذاها اللوبي الصهيوني في أوروبا واستثمارها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بصورة كبيرة وخطيرة. كما أن أصوات المدافعين عن العرب والمسلمين ترتفع بالتدريج في الغرب وبدأ توجه آخر يدعو إلى المراجعة وإنصاف العرب والمسلمين ورفع المظالم عنهم والقهر والاحتلال والدعوة إلى بناء الجسور وإقامة الحوار والتفاهم معهم وحل المشكلات العالقة، سيما الأحكام المسبقة على العرب والمسلمين التي جعلت بعض الأحكام وكأنها حقائق مفروغ من صحتها مع أنها نتاج حروب وتوترات وصراعات في بعض مراحل التاريخ، وتتم الآن استعادة هذه الأحكام مع كل مشكلة تطرأ على العلاقة بيننا وبين الغرب. لكن الفرصة سانحة الآن لطرح الإصلاح الحقيقي وتفعيل الإصلاحات المؤجلة ومنها مسألة الديمقراطية والتعددية والانفتاح على كل الآراء والاجتهادات لأنها كما نعتقد البلسم الشافي لكل الاحتقانات القائمة في بعض المجتمعات العربية. إن الغرب نجح عندما اختار الديمقراطية والتعددية واستطاع أن يبعد كل المشكلات الداخلية بسبب النموذج الانفتاحي والشفافية وتعزيز المجتمع المدني. صحيح أننا لا نقر بعض ممارسات الغرب في الحرية المطلقة والانفتاح غير المقنن البعيد عن القيم الدينية والأخلاقية، لكن الإصلاح الذي ننشده لا يدخل ضمن هذه المنطلقات المتبعة في الغرب، فلكل شعب تقاليده وقيمه الأخلاقية يضعها في دساتيره وأنظمته وقوانينه، ولذلك فإن النظرة إلى الإصلاح الداخلي تعتبر قضية القضايا الآن، والتأجيل والتأخير في هذا الإصلاح ربما يكونان ذريعة للتدخلات الخارجية التي تريد منفذا للعب على قضايا غياب الإصلاح والديموقراطية لتضخيم المشكلات بهدف فرض ما تراه مدخلا لتحقيق أهدافها في فرض ما يحقق اجندتها الاستراتيجية وهذه سوف تبعد الاحتقان والتوترات القائمة. ------ صحيفة الخليج الاماراتية في 9 -8 -2005