لقد ظنت البشرية منذ زمن بعيد أنها تجاوزت في محيط العلاقات الدولية مرحلة الحرب العدوانية، وتجاوزت معها مرحلة السيادة المطلقة للدولة والتي كانت تعطي الحق للدولة في أن تعتدى على من تشاء وفي أي وقت تشاء بناءً على أن سيادتها لا يحدها شيء ولا يقيدها شرط، كما ظنت الإنسانية أيضًا حتى على مستوى مصطلحات فقه القانون الدولي، أنها تجاوزت مصطلح قانون الحرب زعمًا منها ومن كثير من فقهاء العلاقات الدولية أن الحرب باتت خارج إطار القانون وبعيدًا عن المشروعية، لدرجة أن الكثير منهم انصرفوا عن معالجة أحكام الحرب إلى معالجة أحكام السلام، وكان من بين هؤلاء فقيه مصر في زمانه المرحوم د.حامد سلطان الذى أخرج سفره القيم في أحكام القانون الدولي العام والذي لا يزال مرجعًا رئيسًا لطلاب وأساتذة القانون الدولي حتى اليوم على السواء، وكان تحت عنوان "القانون الدولى العام وقت السلم"، وانتقلت بذلك الإنسانية إلى مصطلح أخف حدة وأقل وطأة من مصطلح الحرب يمكن أن يحكم ما تلجأ إليه البشرية عند الضرورة من قتال وهو مصطلح "قانون النزاع المسلح"، وفى آخر تطورات الإنسانية في هذا الشأن، توصلت إلى المصطلح الذى يناسب إنسانية الأمم ورقي الدول وكرامة الشعوب وهو مصطلح "القانون الدولي الإنساني"، والذي يسمى أحيانًا بقانون جنيف نظرًا لقيامه على اتفاقيات جنيف التي وضعت لحماية ضحايا النزاعات المسلحة، وذلك في محاولة من كل أطراف الإنسانية جمعاء إلى أنسنة الحروب والنزاعات، ومحاولة جعل كل النزاعات والحروب التي يمكن أن تلجأ إليها الدول عند الضرورة نزاعات وحروبًا إنسانية. وبناءً على ذلك تضمن القانون الدولي الإنساني الكثير من القواعد والأحكام التي تحظر على الدول استخدام كل صور القوة العدوانية في العلاقات الدولية والتى يمكن أن تمس استقلال الدول أو سلامة أراضيها وحماية مواطنيها من ناحية. كما تضمن القانون الدولي الإنساني العديد من الأحكام التى تتكفل بحماية ضحايا النزاعات المسلحة بين الدول من ناحية أخرى. وذلك من خلال اتفاقيات جنيف 1949، التى تكفلت بحماية ضحايا الحرب البرية في اتفاقية خاصة، وحماية ضحايا الحرب البحرية في اتفاقية ثانية، وحماية الأسرى في اتفاقية ثالثة، وحماية المدنيين في اتفاقية رابعة، ثم أكمل هذه الأحكام بروتكولان آخران تم إلحاقهما إلى اتفاقيات جنيف عام 1977، أحدهما يخص حماية ضحايا النزاعات المسلحة الدولية والآخر يخص حماية ضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية. وبذلك حاولت البشرية في هذا المضمار الإنساني أن تصل إلى ما يقرره الإسلام منذ مجيئه، حينما أكد منع العدوان وواجب الحماية الإنسانية لكل ضحايا الحروب، بل حتى حماية الحيوان والنبات وكل ما يتصل بالبيئة، وقد التزم بهذه الحماية قادة وزعماء الدولة الإسلامية في عهدها الزاهر وعلى رأسهم الخليفة الأول. واليوم وفي هذه الأجواء الأليمة والمريرة وبهذا العدوان الغاشم والظالم على غزة، يأتي الكيان الصهيوني ويعمد إلى هدم ما أنتجته البشرية عبر عقود من الزمن، ويطيح بما بذلته الإنسانية من جهود، وما قدمه العالم من دم وعرق، ويرمى ما وصلت إليه البشرية من ملامح إنسانية عبر المؤتمرات الدبلوماسية والجهود الفقهية والقضائية في قاع المحيط، ويعيد البشرية إلى عهد السيادة المطلقة للدولة، وإلى عهد مشروعية العدوان، وإلى زمن الظلام، وإلى شريعة الغاب وعصور الجاهلية، فسالت الدماء دون سبب وأزهقت الأرواح بلا مبرر، وتنادوا بما كان سائدًا فى الجاهليية من شعار: بغاة ظالمين وما ظُلمنا ولكنا سنبدأ ظالمين يا لها من كارثة يراها كل محايد وكل منصف في أرجاء هذا العالم، ولا يغض الطرف عنها إلا كل من يملك عين الرضا عن إسرائيل، وعين الرضا عن أعداء الإنسانية، وفلول البشرية. أين الحماية الدولية من هذا العدوان الغاشم، وأين النصوص الإنسانية، وهي كثيرة لا حصر لها، ومنها نص المادة 51 من البروتوكول الثاني الملحق باتفاقيات جنيف والتي تتكفل بحماية المدنيين وخاصة في الفقرات التالية منها: (..... 2. لا يجوز أن يكون السكان المدنيون بوصفهم هذا وكذا الأشخاص المدنيون محلًا للهجوم. وتحظر أعمال العنف أو التهديد به الرامية أساسًا إلى بث الذعر بين السكان المدنيين. 3. يتمتع الأشخاص المدنيون بالحماية التي يوفرها هذا القسم ما لم يقوموا بدور مباشر في الأعمال العدائية وعلى مدى الوقت الذي يقومون خلاله بهذا الدور. 4. تحظر الهجمات العشوائية، وتعتبر هجمات عشوائية: (أ) تلك التي لا توجه إلى هدف عسكري محدد. (ب) أو تلك التي تستخدم طريقة أو وسيلة للقتال لا يمكن أن توجه إلى هدف عسكري محدد.(ج) أو تلك التي تستخدم طريقة أو وسيلة للقتال لا يمكن حصر آثارها على النحو الذي يتطلبه هذا الملحق "البروتوكول". ومن ثم فإن من شأنها أن تصيب، في كل حالة كهذه، الأهداف العسكرية والأشخاص المدنيين أو الأعيان المدنية دون تمييز.....) أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]