منذ فترة وأنا أحاول الكتابة حول قضيتي "الإنسحاب" من غزة والبرنامج النووي الإيراني ، وكلما شرعت في ذلك أعادني سيرك النفاق المصري إلى تناول نفس هذه القضية الخطيرة التي استنزفتني نفسيا خلال الأيام الماضية . إن الوضع أكثر سوءا مما كان عليه قبل تعديل المادة 76 الذي تمخض عن إستفتاء يرتدي قناع الانتخاب ، فلا يوجد مرشح واحد قادر على تجييش الجماهير إلى حد يمكنه من مواجهة الدولة بإعلامها وصحافتها وترزيتها ومنافقيها وبلطجيتها. وكما أدى التعديل الدستوري إلى وضع أكثر سوءا ، فإن كل التغييرات الأخرى التي جرت مؤخرا قادت إلى نفس النتيجة : من إبراهيم نافع إلى أسامة سرايا ، ومن صفوت الشريف إلى أنس الفقي، وفي هذا ما يكفي للتدليل طبيعة التغييرات التي تنتظرنا بعد "الإنتخابات". الوضع أكثر سوءا لأن دخان النفاق المنبعث من السيرك المنصوب حاليا، غير مسبوق في كثافته. فلاأذكر أن نفاقا بهذا الكم جرى خلال أي من الاستفتاءات السابقة على رئاسة مبارك خلال ربع القرن الماضي. هناك في (الأهرام) قلة من الكتاب المحترمين يسهل التعرف عليهم . إنهم هؤلاء الذين لم يشاركوا في السيرك ، ممن منعتهم كرامتهم ونزاهتهم من إستغلال الحدث لمنافقة الحاكم بإعلان التأييد له ولحكمه. هذا الموضوع إستنزفني نفسيا لإدراكي خطورة هذا النفاق على مصر. ولهذا السبب لم أحاول متابعة ما ينشر في الصحف والمجلات القومية الأخرى ، ولا مشاهدة قنوات التلفزيون المصرية لأنه إذا كانت متابعة (الأهرام) فقط أصابتني بهذا الغم ، فماذا كان يمكن أن يحدث لي إذا تابعت الأخبار والجمهورية والمصور.. إلخ. إن ما يجري حاليا هو بدون مبالغة كارثة قومية. لماذا؟ لأن دخان النفاق الكثيف فرض غشاوة سميكة على أعين كثير من المثقفين الوطنيين حتى بدأوا يصدقون بأن نظام الرئيس مبارك سيحقق لمصر تقدما من أي نوع . والواقع غير ذلك تماما . نحن بصدد دخان تعمية ، أوSmokescreen المقصود به خداع الناس والتدليس عليهم. والسوابق المماثلة عديدة لما يجري الآن من احتيال ، نرى منها على سبيل المثال حملة إدارة بوش لتبرير الحرب على العراق ، حيث عمد أعوان الإدارة ومنافقيها في الصحافة والإعلام الأمريكيين إلى بث الأكاذيب وتكرارها ليلا و نهارا حتى تحولت في عقول الناس إلى حقائق ، ونجح ذلك إلى درجة أن سبعين في المائة من الشعب الأمريكي كان يظن أن صدام له علاقة بواقعة 11/9. وإنتهى الأمر بكارثة على شعب العراق وعلى آلاف من الشباب الأمريكي البرئ الذي ذهب للقتال في العراق ظنا منه بأنه بذلك يدفع خطرا عن بلاده ، دون أن يدري أنه يموت ويشوه وتُقطع أطرافه خدمة لإسرائيل وحلفائها المجرمين في إدارة بوش المتصهينة. مثال آخر على التدليس الذي يحول الأكذوبة إلى حقيقة في العقول، تدفع الناس إلى تأييدها والدفاع عنها ، جرى إبان حكم عبد الناصر. إحدى الأغاني التي لم أستطع نسيانها خلال هذا العهد كانت تقول "ج م أ ل .. أجمل حروف في الكلام". ووصل دخان النفاق إلى درجة من الكثافة والتعجيز عن رؤية الحقائق ، جعلت غالبية المصريين بمن فيهم كاتب هذه السطور، يظنون بأن عبد الناصر قادر ليس فقط على تحرير كامل التراب الفلسطيني ، وإنما أيضا على سحق الأسطول السادس الأمريكي وإغراقه في البحر. طبعا نعلم جميعا حجم الكارثة التي أوقعها هذا النفاق بمصر. ولكن المنافقين لا يتعلمون ، أو إنهم يعرفون ولا يهتمون لأن مصالحهم ومغانمهم فوق كل إعتبار، ولتذهب مصر وشعبها ، وفلسطين وقدسها إلى الجحيم. الحقيقة هي أن نظام حكم الرئيس مبارك ، نظام فاشل وعاجز لن يحقق لمصر في السنوات الستة القادمة ما عجز عنه خلال ربع قرن. الحقيقة هي أنه لا خير في إحتكار السلطة والتأبيد فيها ، وأنه يستحيل أن يأتي أهل الفساد بإصلاح لأن فاقد الشئ لا يعطيه . الحقيقة هي أن نظام الحكم الحالي انتهت صلاحيته منذ عقود ، وأنه مثل الدواء فاقد الصلاحية ، يستحيل أن يؤدي وجوده إلى علاج أمراض مصر. وكل ما يجري الآن هدفه هو تغيير تاريخ الصلاحية على عبوة الدواء. وأخطر ما في ذلك هو أن الدواء فاقد الصلاحية قد يتحول إلى سم قاتل. [email protected]