أتفهم جيدًا أسباب مطالبات كثير من المصريين بالاستقالات الجماعية من الوزارة الحالية بل ورئيس الجمهورية .. بعد ذلك الحادث الأليم لحافلة التلاميذ .. لكن دعونا ننثر كلامًا .. لعله يصحح المعادلة .. ويضبط الخطى .. .. معظمنا في ظل نظام المخلوع كان يطالب بإعدام مبارك .. وليس فقط استقالة حكومته .. إثر كل حادث أليم يقع على أرض مصر .. كعبارات الموت .. وقطار الموت .. وأكياس دماء الموت .. ومبيدات الموت .. وغيرها. .. فقد كان الموت يحاصرنا من كل جانب .. من نجا من سبيل فلابد أن يلحق به آخر .. كنا وقتها نستشعر ذلاً دب في أعصابنا حتى النخاع .. ولا نرى سوى الثأر بديلاً .. ولا غير الانتقام رادعًا .. ممن تسببوا في قتل أبنائنا وأحبابنا وشبابنا .. ممن باعوا لنا الفساد معلبًا .. جملة وقطاعي .. في أسواق لا تعرف سوى النفعية ربًا .. ولا غير المصلحة إلهًا .. السلعة الأساسية فيها هي كرامة الإنسان .. تباع بثمن بخسٍ قروشٍ معدودة .. جمعوا من ورائها ترفًا ورفاهية على أشلاء إنسانيتنا .. قبل حطام كرامتنا. .. فلو أنك سألت وقتها أي مصري مطحون .. ممن ذاق الذل أشكالاً وألوانًا .. لو سألته: كيف ترى حقك يعود؟ .. والله ليعجزن عن إجابة ذلك السؤال .. يكفيك منه نظرة أسى على طفل فقده .. أو كلمة توجع من جسد أعياه المرض .. أو شعور شوق محرق للقيا حبيب ضاع من بين يديه. .. كم مرة تمنى أحدُنا أن لو وضع النظام السابق أمام عينيه .. رجلاً رجلاً .. مسئولاً مسئولاً .. ليتفنن في أساليب تعذيبه حتى يشف صدره من غل عشعش في أطنابه. .. والشعب المصري كعادته أدخل همومه وغمومه مصنع التحويل المعروف باسم (شر البلية ما يضحك) .. فصار يؤلف كل يوم "نكتة" تنال من عرض مسئول أو رئيس أو وزير .. ينفِّس بها عمَّا بداخله من هم وغم. وما كان ذلك إلا انعكاسًا لشعور يأس من التغيير وتحسين الحال. .. والآن .. تغير النظام .. وجاء نظام جديد .. رئيس خلفه جماعة ممن ذاقوا الويل من النظام السابق .. ومن وقت أن تربع على عرش مصر .. لم يهدأ المرجفون لحظة .. ولم يغمض لهم جفن .. متربصون بكل هنَّة .. لا يتركون شاردة ولا واردة يستطيعون النيل بها من ذلك النظام إلا وصنعوا منها تلالاً من الانتقاد والقذف والسب والشتم .. .. حرية التعبير .. وحرية الصحافة .. وحرية الفكر .. أسلحة مسننة استخدموها لإصلاح المجتمع بزعمهم .. لكن لهم فيها مآرب أخرى .. فقد ذاقوا سابقًا العسل أشكالاً وألوانًا .. في تربة الفساد .. التي خبثت .. فلا تخرج إلا نباتًا نكدًا على البسطاء .. لكنه طاب للنخبة زرعُها وثمارُها. .. رواتب بالملايين .. شواطئ خاصة .. سيارات فارهة .. منتجعات .. سفر وسياحة في أنحاء العالم .. متعة وهناء عيش .. سلطة ونفوذ .. مشاكلهم تحل ما بين طرفة عين وانتباهتها .. تُغيَّر من أجلهم القوانين .. وتُوضَع من أجل ملذاتهم الدساتير .. .. فجأة .. يذهب كل ذلك من تحت أيديهم .. ليوضع في يد من لا يستحقون العيش .. على حد زعمهم .. عرفنا ذلك من لحن أقوالهم .. فمنهم من قال: شعب غبي .. ومنهم من صدع بها مدوية: نحن أسيادهم .. وسنظل أسيادهم. وأحسنهم قولاً من يقول: نحن النخبة. يعرِّضون بالشعب كله أنه دون مستوى التفكير والتعبير .. لا رأي له .. ولا يملك لنفسه قرارًا .. ولا يقدِّر لوطنه المصلحة. أما هم .. فلا عِدْلَ لهم ولا نظير. .. فثار النخبة من خلف الشاشات .. ومن فوق الأوراق .. ومن تحت الأقمار .. خرجوا على الناس بزفيرهم .. وحنقهم وحقدهم .. محمِّلين النظام الحالي فساد السنين .. وتَرِكة الوجع والأنين .. يريدون إقناع الناس أن الفقر والبطالة .. والمرض والموت .. وضنك العيش .. ما هو إلا من فعل هؤلاء .. الذين أتى بهم الشعب .. هم صانعوه .. وهم من أوجدوه .. وتركوه وأهملوه .. حتى جر علينا الموت في سيناء والصعيد .. فلم يرحموا حتى الأطفال. .. رويدكم أيها التافهون .. فلم نعد نعبأ بهذا السخف الذي يخرج من أفواهكم.. ولم نعد بهذه السذاجة .. حتى تصنعوا من دماء أطفالنا تأشيرة عبور إلى عهدكم الماضي .. فجُلُّ عقلاء الشعب يعلم أن بديهيات المنطق تقول: إن ما هدمه النظام السابق بمعاول الفساد في عقود .. لن يُبتنى في بضعة شهور. لا زلنا في ضنك العيش الذي صُنِع لنا بحنكة .. وتأسس في بيوتنا برويَّة .. وعلى مَهَل .. عشرات السنين .. حتى رأينا آثاره في كل مرافق حياتنا .. في الشوارع والطرق .. في المستشفيات والمدارس .. في الشرطة والبلطجية .. في المواصلات والأزمات المرورية. جبال فساد أي عاقل يعلم أنها تحتاج إدارة .. وإرادة .. مؤسسات ونظم .. دستور وقانون .. حكماء وعقلاء .. ومن خلف ذلك كله شعب يريد التغيير .. يعشق التغيير .. يسعى للتغيير .. يساهم كل شخص فيه بالتغيير .. حتى يكتب الله لنا التغيير الذي حرم منه سبحانه من لم يسع إليه. ويغلف كل ذلك بالصبر والحكمة .. والنصيحة للأئمة والعامة .. والعمل قبل الكلمة .. والحركة قبل الفكرة. لذا .. تريدون استقالتهم .. حسنا .. فليستقيلوا غدًا .. بل وليُسجَنوا بعد غد.. فما أنتم صانعون بمصر بعد غد؟!! .. احكوا لنا أيها العقلاء .. في كم يوم يلزمكم إصلاح السياسة والحكم ؟!! كم يوم يلزمكم لكي تصلحوا مرافق الدولة ؟!! كم يوم تحتاجون لكي تصلحوا منظومة التعليم والصحة .. المدارس والمستشفيات ؟!! كم يوم نسمح لكم بها لتصلحوا شوارعنا .. وتوفروا غذاءنا .. وتقضوا على بطالتنا ؟!! عقلاء أنتم أم بلهاء ؟!! أيهما أسرع إنجازًا .. الهدم أم البناء؟!! فإن كان الهدم استغرق ستين سنة أو يزيد .. فكم يا ترى يحتاج البناء؟!! .. إننا إن آخذنا الحكومة الحالية ورئيسها .. فإنما تكون المؤاخذة على أمرين: أولهما: التباطؤ .. وثانيهما: قلة أو انعدام الحزم .. نعم .. يتباطئون في اتخاذ القرارات .. وهذا عيب .. كما إنهم غير حازمين في التعامل مع المرجفين .. الباكين في محاريب الفساد .. على ضياع زمان النهب والسلب .. والنفعية والمصلحة. .. تحسب النخبة المزعومة أنهم على شيء .. وما هم إلا أشياء لا وزن لهم في المجتمع .. غير أنهم مشهورو الأصوات والصور .. أريد أن أرى لأي أحد منهم أي إنجاز مجتمعي حقيقي .. غير الكلام .. غير المؤتمرات والاجتماعات .. والخطب والمحاضرات .. والأصوات والأبواق .. .. اتهموا الإسلاميين بأنهم يشترون الأصوات بالزيت والسكر .. سموا خدمة المجتمع رشاوى .. في حين أن أي حزب يريد النجاح .. عليه أن يبدأ بخدمة المجتمع .. حتى يرفعه المجتمع على رأسه .. حين يرى البذل والعطاء. اتهاماتهم محض هراء .. زوبعة تضليل كعادتهم .. .. إن الحادثة الأليمة الأخيرة .. القطار قابض أرواح الأطفال .. جعلت محترفي الجعجعة يصيحون في كل محفل .. داعين على الرئيس بالهلاك .. وعلى حزبه بالدمار .. واصفين إياهم بقتلة الأطفال .. وصناع الدمار .. .. وإني أربأ بكل مصري عاقل أن يُساق إلى هذا المنزلق .. بواسطة ثلة من المغرضين .. صناع المصالح على أشلاء الموتى .. ولنتعقل الأمور .. ولنزن الأمور بموازينها التي تنفع المجتمع ولا تضر .. نحن الآن في مرحلة بناء .. لا تحسبوها هينة .. أو أن أيامها قصيرة .. بل إننا نحتاج إلى طريق طويل من الإصلاح .. يطال النفس .. قبل أن يطأ الأرض. أعود وأضع كلامكم ذلك في المصنع المصري الأصيل نفسه.. قائلاً لكم: (جاتها خيبة الي عاوزة خلف .. بالشكل ده). أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]