يتحدث علماء الفكر الإسلامي عن أصل السلطة في الإسلام ، ونحن ذكرنا أن الأمة هي مصدر السلطات بمعني أن هي المستخلفة عن الله في تطبيق شرعه " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " ، والأمة لا تجتمع علي ضلالة ، واتباع غير سبيل الأمة هو مفارقة لها وذهاب إلي الهوي ، فالأمة هي السلطة المؤسسة ( بفتح السين ) ، ولكنها تفوض هذه السلطة التي منحها الله لها إلي جماعة من المسلمين تتوافر فيهم شروط القيام بأمانة الحكم ، وهي القوة والأمانة . وهذه الجماعة التي تفوض لها الأمة القيام عنها بمسئولية الحكم يسميهم الفكر الإسلامي " أهل الحل والعقد " ويسميهم في مواطن أخري " أهل الاختيار " ، وأهل الإمارة ، وغيرها من المصطلحات ، وماأريد قوله هنا وأظنه جديدا في كيفية تناول نظام الحكم في الإسلام أن الاجتهادات السياسية التي قدمها لنا الفقهاء القدامي " في كتب الأحكام السلطانية " هي اجتهادات سياسية لا تلزمنا نحن اليوم ، وإنما هي مجرد مرشد لنا تعطينا إضاءات حول طريقة التفكير والتخريج ، ومن ثم فهي ليست ملزمة لنا لأنها من المتغير ، وكل مايتصل بطريقة ترتيب النظام السياسي هو من الاجتهاد السياسي وليس الفقهي . وفي مقال لنا تضمنه كتابنا " الحركة الإسلامية من المواجهة إلي المراجعة " فرقنا بين الاجتهاد الفقهي والسياسي ، وذكرنا أن الاجتهاد الفقهي مصدره الشريعة الإسلامية والوحي وهو نظر المجتهد في النص بما يغلب علي ظنه أنه الصواب ، ومن ثم فإن له حجية مصدرها من مصدر العلم الذي استقي منه اجتهاده ، واجتهاد " الشافعي " في الأم هو اجتهاد يلزم المسلم الذي يختاره كأحد الاختيارات الفقهية التي يتعبد لله بها ، أما الاجتهاد السياسي لأبي يعلي " أو الماوردي " ، وللجويني ، أو لأبي يوسف ، أو غيره فهو اجتهاد لايرقي إلي حجية الاجتهاد الفقهي وإنما هو تعبير عن وجهة نظره في سياق زمنه الذي يعيشه حول " التراتيب الإدارية " للدولة المسلمة . ومن هنا فإننا مع من يذهب إلي أن الأمة هي مصدر السلطات بمعني أنها هي المستخلفة عن الله كوحدة واحدة عضوية لها استقلال معنوي وارتباط عضوي بالشرع والذكر معاً ، ثم لها ارتباطها العضوي بكل مسلم آمن بمحمد صلي الله عليه وسلم . أي أنها تستقبل القواعد والأصول والثوابت من الوحي عبر" الرسول صلي الله عليه وسلم " ، ثم هي تصبح الأمينة بكاملها عبر الزمان والمكان وفوقهما ، فهي مفهوم لا تاريخي فيما أظن وأميل ، فبعد موت النبي صلي الله عليه وسلم ، أصبحت الأمة المسلمة هي مصدر السلطة في الإسلام وهي التي تعطي الشرعية لمن يلتزم خيارها واختيارها ، عبر الاختيار والشوري . وليس عن طريق " ولاية الاستيلاء " التي عرفها العالم الإسلامي في عصور مفارقة الأمة والتسلط عليها ونزع أهم صفاتها وحقوقها وهي حقها في أن تكون هي مصدر السلطة ومنشأتها ومانحة الصفة الشرعية لها ، إنها مفارقة السلطان للأمة ، ومفارقة السلطان للذكر ، ومفارقة السلطان للقرآن . هنا نحن أوضحنا نقطتين منهاجيتين الأولي : التمييز بين الاجتهاد الفقهي والسياسي . تأكيد أن الأمة المسلمة هي مصدر الشرعية والسلطة عن طريق الشوري والاختيار وليس عن طريق الاستيلاء والتوريث وكأن المسلمين متاع للحكام يتوارثونه خلفا عن سلف ،و أبناء عن آباء . ونحن اليوم حين نناضل من أجل أن تكون الأمة هي مصدر السلطات فإننا بذلك ندافع عن حق إسلامي أصيل لهذه الأمة التي كرمها الله بالخيرية ، وهذا الفكر والحق عرفه المسلمون قبل ظهور نظريات العقد الاجتماعي في أوروبا منذ القرن السابع عشر والثامن عشر . وتعرف الخبرة الإسلامية حركات اجتماعية عبرت عن احتجاجها ضد الدولة الأموية والعباسية لإعادة حق الأمة المغتصب إليها . ونحن اليوم نطالب بأن تعود إلينا وإلي الأمة حقها في الاختيار ، حقها في ممارسة المشاركة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وانتزاع هذه الحق ممن سلبوه منها أولئك الملوك الرؤساء المورثين للسلطة والمستبدين بها . وللحديث بقية .