لن أوجه أى قدر من اللوم والعتاب لأى منتقدٍ يصرخ بوجهى قائلاً: كفانا شعاراتٍ رنانة وهتافاتٍ طنانة وعنترياتٍ ما قتلت ذبابة.. وانظروا إلى رقابنا تُنحر ودمائنا تُنهر وفلذات أكبادنا يتساقطون كفراشٍ أُوقدت له مصائدُ النيران، لن أعترض على من يجادلنى بحجة الثمن الذى دفعته الشعوب للتخلص من استعمارٍ جائر؛ أو من حاكمٍ مستبدٍ فاجر ثم كان ما جنته بعد هذه الأثمان الفادحة حصاد الهشيم، ولن أتذمر ممن يتساءل عما تفعله القوى الوطنية والثورية والإسلامية بشعوبها العربية حتى لو كان بحسن نية؛ إذا كانت أوضاع تلك الشعوب لم تتحسن وليس لديها بريق أملٍ أن تتحسن؛ فهى لم تستفد من تصرفات تلك القوى سوى العناء وهى التى دعمتها وحمت ظهرها وقدمت لها الفداء. فنحنُ لسنا بدعًا من الأمم ومن قبلنا قال قومُ موسى عليه السلام لنبيهم الكريم الكليم: {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}، وشعوبنا تمر بها العقود وتتعاقب عليها العهود وهى لم تر سوى الركود والجمود والخمود، فهى معذورة إن ضجت وملت وسأمت؛ وأنحت باللائمة على من يسعون لتغيير هذا الواقع المر؛ وإن كانت لا تتوانى قط عن التعاطف مع حق الشعب السورى فى الحرية والعدالة والكرامة، وحق الشعب الفلسطينى فى كسر الحصار وقهر الاستعمار. كلُ ذلك حقٌ وصدق؛ ولكن ألا يدفعنا هذا الواقع المرير إلى التشبث بالأمل ونحن ليس لدينا شيءٌ نخسره إلا الأغلال؛ إلى من يزعم أن الثوار والمقاومين جلبوا على شعوبهم الموت والخراب؛ نقول لهم وهل كانت تلك الشعوب فى أمانٍ وسلامٍ ورفعة وازدهار لولا هؤلاء المقاومين والثوار؟ نحن شعوبٌ تموتُ مجانًا بلا ثمن؛ واسألوا ضحايا المبيدات المسرطنة وضحايا عبارة السلام وضحايا صخرة الدويقة وضحايا قطار الصعيد؛ فإنسانيتنا مُهدرة وحيواتنا مُكدرة وكراماتنا مُبعثرة؛ وتهاوننا فى حقوقنا جعلنا بين الأمم مسخرة. يقول الله عز وجل {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (النساء78)}، فليست صواريخ الفصائل الفلسطينية ولا قذائف الجيش السورى الحر هى التى نحملها مسئولية همجية الصهيونى المعربد فى غزة ولا وحشية المستبد القمعى فى سوريا؛ وتلك الوحشية والهمجية لا تبرران القعود والاستسلام لهذا البغى والقهر؛ بل هما أكبر حافزٍ على المقاومة. وقديمًا قال المتنبي: "إذا لم يكن من الموتِ بُدٌّ ** فمن العار أن تعيش جبانًا". كثيرًا ما سمعنا المتهكمين يصفون صواريخ الفصائل الفلسطينية بأنها كرتونية، حتى طيرت وكالات الأنباء فى أرجاء العالم مشاهد الهلع والفزع الصهيونى من تلك (الكرتونية) مصداقًا لقول الله عز وجل {سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}؛ ففى تلك الحرب العبثية المجنونة غامر الغادر نتنياهو وتحالفه بما ظنه رحلة برية سيضمن له الانتصار الساحق السريع فيها رفع أسهمه الانتخابية؛ فإذا به يضطر بعد عدة أيامٍ من مغامرته لاستدعاء عشرات الآلاف من جنود الاحتياط؛ بعد أن رأى جرذان شعبه الغاصب يتسللون لواذًا إلى الملاجئ، بعد أن فشلت قبته الحديدية التى زعموا له أنه أقوى وأحدث نظام دفاعى عالمي؛ ففشلت فى صد 60% مما أطلق عليها من صواريخ كرتونية؛ لتبشرنا بأن العين قد تهزم المخرز؛ أو بالأقل تصمد له فتخزيه وتبدد أوهامه. لستُ ساذجًا لأفرط فى التفاؤل فأسوقكم لأحلامٍ وردية؛ أو أبشركم بانتصاراتٍ مما قال فيها شوقي: "ظَفَرٌ فى فم الأمانى حلوٌ *** ليت لنا منه قُلامة ظُفْرِ"؛ فأنا على يقين أن المقاومة الفلسطينية أمامها طريقٌ طويلٌ ووعرٌ وشاق من كفاحٍ مرير وقوده تضحياتٌ عملاقة؛ ولكن الواقع الإقليمى والدولى يجزم بأن هذا هو الطريق الوحيد؛ الذى من العبث على الفلسطينيين أن يواصلوا مهزلة سلوك سواه من الطرق الخربة الخائبة؛ كما أوقن أن المقاومة السورية الباسلة وإن لاحت لها بشائر النصر قريبة بإذن الله؛ فإنها سترث تركة ثقيلة من الأرض المحروقة وجحافل الضحايا من قتلى وجرحى ومعاقين وذويهم من الأيتام والأرامل والثكالى والمشردين؛ ناهيك عما ينتظرهم من جيوش الفلول والمرتزقة والمتسلقين وما يُحاك لهم من مؤامرات؛ تُطبخ لهم من الآن فى عواصم إقليمية ودولية؛ ولكن فى مصائر الشعوب لا توجد لدينا اختيارات، والزعيم الإنجليزى التاريخى "ونستون تشرشل" رئيس وزراء بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية؛ خاطب شعبه قائلاً "ليس عندى ما أعدكم به إلا الدموع"، وبكى الإنجليز وبكت كل أوروبا معها لمدة ثمان سنوات عصيبة بدل الدموع دمًا، فقدوا فيها خمسين مليون قتيلاً وأضعافهم من الجرحى والمشردين، ودمرت مدنهم الجميلة العريقة وبنيتهم التحتية، ولكنهم لم يرضوا بالبديل المر وهو الاستسلام والخضوع لفاشية الديكتاتور النازي، وفى النهاية انتصرت أوروبا لتخرج بعد هذه المحنة القاسية لتقود قاطرة التقدم والنماء فى العالم. أدعوكم لتشاركونى الإحساس بفرحة طبيبٍ ساقوا له ذات ليلةٍ شابًا دهسته شاحنةٌ فطحنت عظامه ومزقت أوصاله وأفقدته وعيه ولم تُبق له سوى أنفاسٍ بطيئة تكادُ تنقطع، فسارع هذا الطبيب فى يأسٍ لتضميده وتجبيره؛ وإيقاف نزفه وإنعاش قلبه؛ وسهر عليه ليالى وأياما؛ وأسابيع وشهورا وسنوات وهو لا يُحرك ساكنًا؛ ثم فوجئ به ذات ليلة فى رقدته التى طالت يُحرك أصبعًا أو يفتح عينًا، سينتفض الطبيب راقصًا من فرط الفرحة؛ وسيخذله من حوله بأنه يُبالغ ويخدع نفسه؛ وليست القضية كما يتصورون فسعادته ليس بشفاء تامٍ قد تحقق بل ببوادر أملٍ لحالة لم يرج شفاؤها. اللهم يا من أمرك بين الكاف والنون .. قيّض الحرية لسوريا .. واكتب العزة لغزة.