التاريخ ذاكرة الأمم والشعوب، والأمة التى لا تعرف تاريخها ولا تدرسه كالإنسان فاقد الذاكرة الذى لا يعرف لنفسه ماضيًا ولا كنها، من هو وماذا يصنع وأين وكيف ولماذا يعيش؟.. فاقد الذاكرة إنسان تائه على قارعة الطريق.. وكذلك الأمم والشعوب.. من أجل هذا كانت دراسة التاريخ هى إنعاش ذاكرة الأمة لمعرفة هويتها ورسالتها وهدفها فى الحياة.. وكانت المناسبات التاريخية المختلفة فرصة ذهبية لاستعادة الذاكرة التى تصنع الحاضر والمستقبل فى ضوء معرفة يقينية بالذات والرسالة وغاية الوجود.. وفى هذه الأثناء تهل علينا ذكرى الهجرة العطرة نسمات تحيى قلوبا طال رقادها تحت ركام أعباء الحياة اليومية وتفاصيلها المضنية باهازيج (طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ….. وجب الشكر علينا ما دعا لله داع) وعندما تهل الذكرى أو تتجدد نجد أنفسنا أمام آفاق ورؤى جديدة متجددة نستلهم منها الجديد من قراءة التاريخ لاسيما السيرة النبوية الشريفة، ومن وحى دروس الهجرة النبوية الشريفة نتساءل سؤالاً مهمًا: لماذا كانت الهجرة النبوية؟ لماذا هاجر النبى صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه من مكة إلى المدينة؟ سؤالا ينقلنا بالبديهة إلى سؤال عن طبيعة هذا الدين وخصائصه.. بمعرفة طبيعة قريش التى خاصمت الإسلام فى مكة واضطرته إلى القيام بهذه الهجرة.. المسألة فى تصورنا أعمق بكثير من فكرة الفرار بالنفس أو بالدين الجديد من أذى قريش واضطهادهم.. فلو كان الأمر يتعلق بالنجاة بالنفس، لكان الأيسر والأوفق كتمان العقيدة والإيمان فى النفوس صدا للأذى ودفعًا للعدوان وإيثارًا للسلامة والسلام.. إن معركة قريش مع الإسلام ورسول الإسلام لم تكن معركة مع عقيدة إيمانية جديدة أو مخالفة لما تعتقده قريش، وإنما كانت حربًا على دعوة لا يمكن أن تكتمل أركانها إلا بتكوين مجتمع جديد ودولة متكاملة الأركان ومنهج جديد للحياة يقره الإسلام.. إن قريش التى كانت وثنية الاعتقاد الدينى كانت فى ذات الوقت علمانية المنهج السياسى والسلوك الاجتماعى.. كانت قريش تؤمن بتعدد الأديان وحرية العقيدة.. وتسمح لأبنائها بالتدين بأديان أخرى لا ترتبط بوثنيتها، وحرية ممارسة عباداتهم الخاصة، دون أن تمسهم بسوء شريطة ألا يجاهروا بالدعوة إلى ما يؤمنون به، أو يخلطوا بين ما يؤمنون به فى ضمائرهم وما يدينون به فى نفوسهم، وما يتعبدون لربهم به، وبين شئون الحياة.. ولذا يحدثنا التاريخ عن أديان أخرى عاشت فى الجزيرة العربية، بل عاشت فى مكة نفسها وبين أحضان قريش، ولم يتعرض لها القرشيون بأذى.. فقريش التى كانت تمارس حرية التدين بشرط عدم وصول الدين إلى منصة الحكم والتوجيه كانت تسمح بوجود أمثال ورقة بن نوفل الذى كان على ديانة أهل الكتاب، وكانوا يعرفون الصابئين أو الذين يتركون عبادة الأوثان لإتباعهم دين إبراهيم عليه السلام، إن محمدًا صلى الله عليه وسلم أقام بين مشركى قريش أربعين عامًا من عمره لم يسجد فيها مرة لوثن أو صنم، ومع ذلك لم يتعرض له أحد منهم بلوم أو أذى، بل كان يحظى رغم مخالفته دينهم وعبادتهم بمكانة رفيعة جعلتهم يلقبونه بالأمين، ويأتمنونه على ودائعهم، ويحكمونه فى قضاياهم المصيرية مثلما حدث فى واقعة بناء الكعبة.. بل إن مشركى قريش بقيادة أبى جهل وأبى لهب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة، كانوا يسمحون للمسلمين بممارسة عبادتهم شريطة عدم المجاهرة بذلك، كما تدل على ذلك قصة أبى بكر الصديق مع بن الدغنة لما دخل فى جواره، وكان يجاهر بصلاته فى فناء داره فى جوف الليل، وكان رجلا رقيقا يبكى إذا قرأ القرآن فيجتمع عليه العبيد والصبيان والنساء، فمشى رجل من قريش إلى بن الدغنة – وكان قد أجاره حين اعتزم الهجرة إلى الحبشة- فقالوا له: يا ابن الدغنة إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا، فأته فمره أن يدخل بيته فليفعل فيه ما يشاء. ، لم تكن معركة قريش إذن مع المسلمين من أجل صلوات تؤدى فى البيوت أو المساجد، وإنما كانت حربهم ضد أن يُسقط حكم محمد صلى الله عليه وسلم حكم طواغيت قريش! فى ضوء ما تقدم نستطيع أن نفهم الهجرة النبوية الشريفة ذلك الحدث الذى غير مجرى التاريخ الإنسانى كله بإنشاء دولة النبى التى أسست بسماتها للدولة المدنية الحديثة، فلم تكن الهجرة مجرد نجاة بالنفس من الملاحقة والتعذيب ولكنها كانت أكبر من قضية الإنسان ذاته.. يقول د. عماد الدين خليل:" إن الإسلام جاء لكى يعبر عن وجوده فى عالمنا من خلال دوائر ثلاث، يتداخل بعضها فى بعض، وتتسع صوب الخارج لكى تشمل مزيدًا من المساحات، دائرة الإنسان، فالدولة، فالحضارة، ولقد اجتاز الإسلام فى مكة دائرة الإنسان، ثم ما لبثت العوائق السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية، أن صدته عن المضى فى الطريق صوب الدائرة الثانية حيث الدولة، لأنه بلا دولة ستظل دائرة الإنسان التى هى أشبه بنواة لا يحميها جدار، ستظل مفتوحة على الخارج المضاد بكل أثقاله وضغوطه وإمكاناته المادية والروحية، ولن يستطيع الإنسان (الفرد) أو (الجماعة) التى لا تحميها (دولة) أن يمارسا مهمتهما حتى النهاية، سيما إذا كانت قيمهما وأخلاقيتهما تمثلان رفضًا حاسمًا لقيم الواقع الخارجى والتجربة المعاشة، ولابد إذن من إيجاد الأرضية الصالحة التى يتحرك عليها المسلم، قبل أن تسحقه الظروف الخارجية أو تنحرف به عن الطريق، وليست هذه الأرضية سوى الدائرة الثانية، وليست هذه الدائرة سوى الدولة التى كان على المسلمين أن يقيموها وإلا ضاعوا!! وهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم تبدأ منذ اللحظات التى أدرك فيها أن مكة لا تصلح لقيام الدولة وأن واديها الذى تحاصره الجبال، وكعبتها التى تعج بالأوثان، لا يمكن أن تكون الوطن، ومن ثم راح الرسول يجاهد من أجل الهجرة التى تمنح المسلمين دولة ووطنا، وتحيط كيانهم الغض بسياج من إمكانيات القوة والتظيم والأرض" . من هذا المفهوم ندرك أن هجرة النبى كانت أساسًا لإقامة الدولة، لم تكن الهجرة لحماية الإنسان الفرد كجسد بقدر ما كانت محاولة لحماية قيم وروح وإيمان هذا الإنسان من خلال حماية دائرته النواة بالدائرتين الأوسع والأقوى، وهما دائرتا الدولة ثم الحضارة.. لم يكن ممكنا أن يصنع الإسلام حضارة إنسانية توجهها الربانية متمثلة فى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، دون وجود الحلقة الوسيطة وهى الدولة! كيف تتجسد قيم الإسلام مثل العدل والمؤاخاة والحق والحرية، وحرية العقيدة، وممارسة العبادات الدينية فى حرية وأمن واطمئنان، كيف تتحقق قيمة المساواة بين الإنسان وأخيه الإنسان، دون أن يتم ذلك كله من خلال مجتمع أو أمة تحكمه دولة؟! لو كان الإسلام كما يحاول أن يصوره بعض الذين يقيسونه على ديانات ومذاهب روحية بحتة، إنما جاء لينظم العلاقة بين العبد وربه، وأن الدين ما هو إلا طقوس تعبدية تؤدى فى المسجد وليس لشريعته سلطة أو علاقة بالحياة، فما حاجة المسلمين ونبيهم إلى الهجرة إذن؟ هل هاجر النبى صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه من أجل ممارسة الصلاة أو الصيام كشعائر تعبدية وفقط؟.. إن هذا فهمًا لم يفهمه حتى مشركى قريش أنفسهم! إن قريشًا كانت وثنية الدين علمانية المنهج، وهل تعنى العلمانية سوى أن تقتصر علاقة المسلم بربه على المساجد أو البيوت، فيعبد الإنسان ربه ما شاء الله له أن يعبده دون أن يكون له علاقة بالحياة؟ فليس فى الدعوة إلى العلمانية المعاصرة أى تقدم أو حداثة، فلقد دعا مشركى قريش إلى مثلها قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان عندما قالوا لابن الدغنة: فمره أن يدخل بيته فليفعل فيه ما يشاء! أما رد الإسلام على هذه الدعوة العلمانية التى تؤمن حرية العبادة فى المعابد فقط، فكان رفضًا قاطعًا، هذا الرفض الذى رفع لواءه أبو بكر فى حواره مع مجيره بن الدغنة، " فمشى بن الدغنة إليه فقال له: يا أبا بكر إنى لم أجرك لتؤذى قومك، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت، قال أبو بكر: أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله؟ قال: فأردد على جوارى، قال: قد رددته عليك لقد كانت الهجرة النبوية ضرورة لا مناص منها لإقامة الدولة لاستكمال تنفيذ شرائع الإسلام، وإلا كيف كان يمكن أن تتنزل السور المدنية فى القرآن الكريم بما تحمله من شعائر وتشريعات، وما تتضمنه من قوانين وأحكام تحكم الفرد والمجتمع وتحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والدولة والدول الخارجية؟ إن الذين يظنون أن الإسلام دين بلا مجتمع ولا دولة، يهدرون قيمة الهجرة النبوية الشريفة، ويهدرون قبل ذلك كل القرآن المدني، ويكتفون بالمرحلة المكية فقط! ولقد كانت الهجرة النبوية الشريفة أيضًا عمل الرسول صلى الله عليه وسلم للخروج من مأزق الدعوة فى مكةالمكرمة، فلم يكن معنى الثبات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، الجمود أو البقاء فى النفق المظلم إلى ما لا نهاية، بل الثبات هو الثبات على الإيمان والعقيدة، إنما عملية اختيار أرض الدولة وتنشئتها وبنائها يحتاج إلى واقعية إيجابية ومرونة وعمل سياسى لا ينقطع.. " والرسول صلى الله عليه وسلم الذى علمتنا سيرته الواقعية الإيجابية التى كان يتمتع بها، والحرص على الطاقة الإنسانية ألا تتبدد فى غير مواضعها، سرعان ما يتحرك صوب الخروج إلى مكان جديد يصلح لصياغة الطاقات الإسلامية فى إطار دولة تأخذ على عاتقها الاستمرار فى المهمة بخطى أوسع، وإمكانات أعظم بكثير من إمكانات أفراد تتناهبهم شرور الوثنية من الداخل وتضغط عليهم قيم الوثنية من الخارج ويستنزف طاقاتهم البناءة اضطهاد قريش، بدلا من أن تمضى هذه الطاقات فى طريقها المرسوم" . *عضو رابطة الأدب الإسلامى العالمية أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]