مهما قيل عن النتوءات المصرية المتمثلة في: أخلاقيات الفهلوة وبازار الألقاب واقتصاديات البخشيش، والغرور المتواضع (الإنسان المصري أكثر العرب بساطة على المستوى الفردي، وأكثرهم اعتدادًا على المستوى الجمعي، يتبدى هذا في الإعلام المصري بشكل واضح حيث لا ترى فيه رغم الانبثاق الفضائي التعددي سوى الصلوات المصرية والفنون المصرية والمباريات المصرية والحوارات المصرية فقط!). مهما قيل عن هذه السوسيولوجيا المصرية المتفردة، المزعجة للبعض والمسلية للبعض الآخر، فإنه لا يمكن إغفال الريادة المصرية في مجالات متعددة ومتنوعة على امتداد البروز العربي، فأبرز مقرئي القرآن عربيًا هم مصريون (المنشاوي وعبدالباسط)، وأبرز الدعاة والعلماء مصريون (الغزالي، والشعراوي، والقرضاوي)، وأبرز المطربين مصريون (أم كلثوم، وعبدالحليم)، وأبرز الممثلين مصريون (لا يمكن حصرهم!) والنوبليون العرب الثلاثة مصريون (السادات ومحفوظ وزويل). آخر صرعات التفرد المصري هي حركة «كفاية»، تلك الكلمة الصغيرة المفخخة التي هزت الشارع المصري.. بل وشوارع عربية أخرى استهوتها صرخة «كفاية»... لكن بلهجاتها المحلية، وأعني تحديدًا شوارع «الجمهوريات الملكية» العربية! اختار الشعب المصري أن يقول كفاية... طلبًا للتغيير. لكن هل يريد المصريون التغيير لمجرد التغيير، أم التغيير المشروط إلى الأفضل؟ من خلال عشرة أيام أمضيتها حتى قبل أمس في مصر، لم يكن شغلي الشاغل فيها وحديثي الفضولي مع سائق التاكسي والجرسون والبواب والبائع، سوى الرئيس المنتظر لمصر، الذي سيأتي على صهوة «كفاية»، بعد أن كان يأتي طوال السنين الماضية على صهوة 99.99 في المئة من الشعب المصري! المفارقة هي أنني وجدت من مجمل حواراتي الشوارعية تلك أن 99 في المئة ممن حاورتهم يبدون رغبتهم في إعادة ترشيح مبارك رئيسًا لمصر. إذًا أين مفعول «كفاية» وأين الرغبة في التغيير؟! الإجابة تكمن في الذهنية المصرية - والذهنية العربية عمومًا هنا لا تبتعد عنها - فالذين يأبون التغيير وينقضون حركة «كفاية» يستندون في موقفهم ذلك إلى أحد سببين، الأول: العشرة والعيش والملح و «وجه تعرفه ولا وجه ما تعرفوش» و «ناس شبعت ولا ناس لسه عايزه تشبع!». وتتأجج هذه الطريقة العربية في التفكير، بالذات عند الشعب المصري - العاطفي بطبعه - فهو لا يستطيع أن يتخيل أنه سيخون عِشرة ربع قرن مع «رئيس العمر» مبارك من أجل شخص آخر لم يعرفه إلا قبل أيام معدودة! هي طريقة ساذجة في التفكير بلا شك، إذ إن أبسط نقائضها هو أن القديم كان جديدًا في البدء، لكن التفسير العاطفي لا يلتفت عادة إلى حسابات منطقية جدلية، وإلا تحولت عملية التفكير تلك من غرفة الوجدان إلى غرفة العقل. يعزز السبب الأول (العاطفي) في تقويض «كفاية»، سبب آخر معاضد له هو عدم وجود البديل المقنع للمجازفة بنسف العشرة والعيش والملح مع الرئيس/ الصديق: مبارك. فالمصريون لا يريدون التغيير فقط، بل يريدون التغيير المشروط إلى الأفضل، أي في حال غياب البديل الأفضل فإنه من المناسب تغييب التغيير إلى أجل آخر. فالشعب ليس لديه الشجاعة والجرأة - وربما التهور! - للمجازفة بوضع يده في يد لم يعرفها ويمسسها من قبل. أدركت هذه النزعة في الشارع المصري حين طرحت اسم: عمرو موسى كمرشح مفترض للرئاسة المصرية، فكانت أصوات الرضا والتمني تأتي فورًا من تلك الشفاه المترددة من قبل. كان هذا الاسم الذي أطرحه باستدراج أمام معارضي التغيير وحاملي لواء «العشرة والعيش والملح» يُنسي العشرة ويذيب الملح! كان اسم «الرئيس عمرو موسى» بالنسبة الي هو الفخ الذي كشفت به موقف الشارع المصري من مرشحي الرئاسة المنافسين لمبارك. لم يكن هذا الفخ مناقضًا كليًا لاستحقاقات «العِشرة» الانتخابية، فعمرو موسى أيضاً ليس نكرة في الساحة السياسية المصرية والعربية، وليس وجهًا جديدًا على الشعب المصري، كما أنه ليس اسماً يعرف في اللافتات الانتخابية للمرة الاولى. مؤدى ذلك أن عمرو موسى، فوق كفاءته وجدارته وسمعته البراقة في الشارع المصري، يملك أيضاً مثل مبارك استحقاق «العيش والملح» مع الشعب، ما يؤهله إلى اكتساح دوائر انتخابية عديدة لو ترشح للانتخابات. موجز ذلك... أن حسني مبارك سيفوز - كما هو متوقع - ليس بجدارته فقط، بل بهامشية منافسيه أيضاً! وها هي النكات المصرية تبدأ في تمهيد الطريق لمبارك نحو فترة رئاسية جديدة: «قالوا للريس مبارك قبل التصويت: مش حتقول خطبة تودع بها الشعب. قال لهم: ليه... هو الشعب رايح فين؟!». الديموقراطية تؤمن دومًا بالتغيير المستمر، والعقل الوجداني لا يستسيغ التغيير المستمر بل يركن إلى العلاقات المتقادمة، والشعوب العربية وجدانية تستلبها العشرة ويأسرها العيش والملح، وبالتالي فهي لا تتحمل غلواء الديموقراطية وجبروت التغيير... وبالذات التغيير لأجل التغيير فقط، وليس التغيير المشروط إلى الأفضل. إذا فاز مبارك هذه المرة ب99 في المئة فليس السبب هو تزييف الانتخابات، بل زيف الديموقراطية! ---------------------------------------------------------- * كاتب سعودي. رئيس تحرير مجلة «المعرفة». صحيفة الحياة اللندنية