قبل آلاف السنين حدثَ إعصار مدمر، يصفه المولى فى كتابه العزيز بقوله: "وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ* سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا".. وعاد التى سَكنتْ الأحقاف (بين عمان وحضر موت) بعد زمان نوح عليه السلام - "وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ.." أقاموا حضارة، وأنشأوا مدنية، وعمروا الأرض، وشيدوا الأبنية المرتفعة، وقد كانوا مَوْصُوفين بالقوة، وكانوا مُتمتعين بالأجساد التامة، والصحة الوافرة ".. وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ". ونبيهم (هود عليه السلام) يدعوهم إلى ربهم، ويحاول إنقاذهم، فينذرهم، ويذكرهم بما أنعمَ الله عز وجل به عليهم من خيرات، وكثرة فى الذرية، وبركة فى الحيوان، والزروع، ووفرة فى المياه، وخصوبة فى الأرض "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ{131} وَاتَّقُوا الَّذِى أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ{132} أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ{133} وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ{134}".. ويقول لهم أيضًا فى موضع آخر: "أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ{128} وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ{129} وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ{130} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ{131}". وها هو عليه السلام يُبين لهم طريقة شكر النعمة التى أنعم الله بها عليهم، وسبيل الحفاظ عليها، ويوضح لهم أسباب السعادة والأمن والرخاء الذى لا يزول، ويشرح لهم نظرية الواقعية للنماء: "وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ"؛ فبالاستغفار والإذعان، والعيش فى كنف الله تدوم النعمة وتنمو.. لكنهم هَزؤوا به: "قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ{136} إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ{137} وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ{138}".. بل اتهموه – كما هى العادة – بالجنون، وأن ذلك من فعل آلهتهم: "قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ{53} إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ{54} مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ{55}"، "قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِى سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ". ولم يقفوا عند هذا الحد، بل غرتهم قوتهم وعصفت بعقولهم أوهام العلو وقالوا قولتهم الشهيرة التى تتردد فى كل عصر على لسان من أصابه ما أصابهم.. "وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً.."، فيرد الله عليهم: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ" (فصلت). فما كان نتيجة ظلمهم وبطشهم وإنكارهم واستهزائهم برسول الله إلا الهلاك والإفناء فى الدنيا، والعذاب والخزى فى الآخرة: "فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْى فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ". كانوا ينتظرون المطر، والخير الذى وراءه من بعد أيام جدب وانقطاع، وما أن رأوا السُحبَ حتى فرحوا بها، واستبشروا الخير الوفير، ولكن - ويا للقدر- فالذى ينتظرونه، ويترقبون وصوله كان هو موعدَهم وكان عاقبتهم: ".. َلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ* تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ". وزالت حضارتهم التى أقاموها، ولم تنفعهم قوتهم، ولم تدفع عنهم ضخامة أجسادهم، ولحقتهم اللعنة، وصاروا مثلاً وتاريخًا يحكى للعظة والاعتبار: "وَأُتْبِعُواْ فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ"، "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَادِ". وعاد واحدة من الأمم التى ذكر القرآن قصص هلاكها بسبب ظلمها، وجحودها، واستكبارها، فقد كثر فى القرآن الكريم ذكر هذه القصص؛ لكى تظل الذكرى ماثلة، والعبرة حاضرة: "وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِى الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ. إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ" (ق 36 – 37).. "َأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ" (الزخرف 8). هذا هو القرآن الذى حرق الشاذُ المَعتوه تيرى جونز نسخة منه فى قلب أمْريكا، وهذا هو القرآن الذى نزل على قلب أطهر وأكمل البشر صلى الله عليه وسلم، والذى خرج من قلب أمريكا عمل حقير يتطاولُ على مقامه الشريف، وهذا هو القرآن الذى حذر الجبابرة الطغاة والأمم الظالمة المستكبرة من سوء المصير.