من الطبيعى أن يشعر الإنسان بتأنيبٍ ذاتى عندما يرتكب خطأً أو إثمًا فى حق نفسه أو فى حق الآخرين، وهذه علامة صحةٍ نفسية وصحوة ضمير، أما أن يشعر إنسان [براحة] عندما يفقد ضميره، فتلك تجربة خاصة جدا، لا يمكن أن يصفها وصفا يقينيا إلا من كابدها.. وأذكر أننى قرأت قصة قديمة لنوال السعداوى بعنوان: "هذه المرأة"، وهى قصة ممرضة (تسمى نفيسة) تعيش فى صراع نفسى هائل بعد أن أحبت طبيبا بالمستشفى الذى تعمل به (اسمه رشيد)؛ أوْهمها أنه يحبها حتى افترسها ثم أهملها.. كانت تظن أنها بهذا الذى تصورته حُبًّا قد ودّعت به حياة الفقر والتعاسة مع أسرتها فى حارة شقّ التِّعْبان. ولكنها تعلمت شيئا جديدا من زميلتها الممرضة فاطمة.. التى قالت لها: "إن هؤلاء الرجال لا يتزوجون أمثالنا من الفقراء.. وعلينا أن نكتفى بمصاحبتهم والاستمتاع بهداياهم وكلمات الحب التى يجودون بها".. حتى الآن هى قصة عادية تختلف تفاصيلها من كاتب لآخر؛ وقصص يوسف إدريس ورواياته حافلة بهذه النماذج كما نراه فى "قاع المدينة، والعيب، والحرام.."، حيث يتم التنازل عن القيم والمبادئ الأخلاقية ويتوالى الانزلاق حتى يتم السقوط النهائي، وتتفجر الكارثة. عند يوسف إدريس الظروف الطبقية القاهرة فى المجتمع، والتشوّهات النفسية، هى أبرز عوامل السقوط.. ربما الفرق بينه وبين نوال السعداوى، أنه كان يرصد ويصوّر، وقد يجعلنا نتعاطف أونبكى على مصير الضحية، أما هى فمُنَظّرةٌ أيديولوجية، وصاحبة أفكار متمرّدة تدعو إليها.. يتجلى هذا فى أن الضحية عند نوال السعداوى تتخذ قرارًا واعيًا بما هى مُقدِمَةٌ عليه؛ فقرار اللحظة الفارقة بالاختيار بين حياتين، تمهّد له نوال السعداوى بخبرة وحرفية متميزة تقول: دخلتْ رأس نفيسة الصغير مفاهيم لم تكن تعرفها، واتسعت مساحة الأرض فى عينيها، وتعدّت حارة شق التعبان وعنابر المستشفى.. روّضت أفكارها؛ وأصبحت المبادئ والفضيلة فى تفكيرها الجديد شيئا مطَّاطًا يمتد مسافة بعيدة.."، وهنا تبزغ اللحظة الفارقة فى أعماقها.. وفى نقلة من حالة الاكتئاب إلى حالة الانبساط، تقول نوال السعداوى: "أخذت [نفيسة] تدندن بأغنية مَرٍحَة كانت تغنيها مع رشيد.. وأحسّت كأن كابوسًا ثقيلا ينزاح من صدرها فجأة وأن السحابة القاتمة التى كانت تغشى عينيها اختفت تماما.. وأحسّت براحة.. راحة عجيبة تصحب [دائما] الشعور بفقدان الضمير.. وابتسمت لنفسها ابتسامة جديدة وقالت بصوت عالٍ: يا سلام.. ده أنا كنت عبيطة..!". من هذا المنظور يمكن أن نفهم كيف تم الانقلاب الفكرى الذى تحولت فيه نوال السعداوى من ابنة لشيخ درْعميّ، إلى هذه الشخصية الكارهة للإسلام والتى لم تترك شيئا مقدسا فى الدين إلا سخرت منه.. ولم يقف هجومها على الإسلام عند حد بل تجرّأت على الاستخفاف بالذات الإلهية..! تفعل كل هذا وكأنها: "تشعر براحة عجيبة تصحب دائما الشعور بفقدان الضمير!" تقول نوال السعداوى: "تصورت فى طفولتى أن زميلتى القبطية ستُحرق فى نار جهنم لأنها ليست مثلى مسلمة".. إلى أن قالت لها أمها مرة: "ليس هناك نار.. فكسرت حاجز الخوف فى عقلي، [هذه العبارة] لعبت دورا فى تغيير نظرتى للعالم كله وليس فقط لزميلتى القبطية..".. ثم تنتقل كعادتها من حالة جزئية إلى التعميم والتنظير الأيديولوجى.. وهو افتعال لا صدق فيه.. كما لاحظتُ فى تحليلاتى لكتابات الماركسيين (اليساريين) والعلمانيين بصفة عامة.. وهذه ظاهرة تستحق الدراسة. عادةً ما تظل الخبرات العابرة فى حياة الإنسان بذورًا كامنة فى ركن من الدماغ حتى تأتى لحظة فى حياته ينقلب فيها من حالةٍ إلى نقيضها.. مثلا من الإيمان إلى الإلحاد أو بالعكس.. يتبع هذا التحوّل العَقَدِى عملياتُ تبرير عقلي؛ فمن حقائق علم النفس أن الإنسان يكتسب عقائده خلال تجارب "لا عقلانية" فى معظمها، تلعب فيها مشاعر الحب والكراهية دورًا رئيسًا.. ثم يأتى دور العقل بعد ذلك لتبريرها، فى عملية يمكن أن تسميها "البرمجة الذاتية"، وهنا يظهر أثر الخبرات القديمة المنطوية فى أعماق الشعور.. لتعزيز عملية التحوّل الفكريّ. وهذه حالة لا تخص نوال السعداوى وحدها، ولكنه ميل عام يقع فيها أكثر الناس، باستثناء قِلّةٍ منهم، يتمتعون بقدرة خاصة على مغالبة هوى النفس، يقوم الإنسان فيها بتحليل سلوكه الخاص ودوافعه، وممارسة نوع من النقد الذاتى، فيما يُعرف فى علم النفس بالاستبصار [الجُوّاِنيّ]. وأهم من كل شيء، تدفعه رغبة مؤرّقة للوصول إلى الحقيقة المجردة! ولا أعتقد أن نوال السعداوى، وأمثالها يتمتعون بهذه الخواص النادرة؛ يعوقها عن ذلك ثلاثة عوامل: (1) نرجسية مفرطة تعميها عن رؤية أى نقص أو عيب فى ذاتها، (2) حساسية مفرطة بكل ما يحيط بها، تشغلها عن عالمها الجوانى الخاص؛ إذْ تلتقط التفاصيل بحساسية شديدة، إلى درجة الهوس، لتفسّرها فى إطار منظومة من معتقداتها الخاصة، (3) غرور بالنفس يبلغ حد التأليه الذاتي، فكأنها لا ترى إلهًا فى الكون سواها.. هى إذن متمردة على كل قيمة عامة؛ اجتماعية كانت أو أخلاقية أو دينية.. مما يقدّسه الآخرون.. فكل شيء فى نظرها خاضع للشك والنقد والرّد.. من هنا جاءت شطحاتها العقلية، وتجديفها فى العقيدة، وآراؤها المثيرة للجدل. أعتقد أن آراء نوال السعداوى ومواقفها تنبع من خطأ فكرى ومعرفى جسيم؛ فهى لم تتصل بالفكر الإسلامى فى مصادره الأصلية ولم تكلّف نفسها قراءة واستيعاب الدين الصحيح فى القرآن والسّنة وأصول الفقه، لأنها لو فعلت هذا بإخلاص فى طلب الحقيقة لشغلها هذا عن العبث الذى عاشته هذا العمر الطويل الذى تجاوز ثمانية عقود من الزمن.. وأثارت به الدنيا من حولها.. فمن أين استمدت إذنْ معرفتها بالإسلام؟ يقول الناقد الأدبى معتز الخطيب: "إن أبرز ما تقع فيه السعداوى من أخطاء هو الخلط الواضح بين القيم الدينية والقيم الشعبية التى ترجع للعرف والعادات والتقاليد، وكذلك النزعة القوية لبناء أحكام "عامة" على حوادث "فردية وشخصية" كالقصص المنقرضة، التى تسردها، والمفاهيم الخاطئة التى تجعلها قيمًا ثابتة للمجتمع، وتحميل ذلك كله على الدين!". فى إطار منظورها الخاص لنفسها وللعالم، تقيس كلام الآخرين وآراءهم ومواقفهم بمعاييرها وقيمها الخاصة؛ فما توافق منه مع هذه المعايير فهو مقبول، وما تعارض معها فهو مرفوض ومُستبعد.. مثلا: نجد أن أبرز ما لاحظته فى نقدها على الخطاب الأول للرئيس محمد مرسى هو – بحسب تعبيرها - أنه "ينِمُ عن التفكير اليقينى الديني"، واعتبرت هذا من أكبر أخطائه ومن ثم ترفع هذه الأسئلة الاستنكارية.. حيث تقول: "لغة الخطاب دينية إسلامية، لم يرد فيها كلمة المواطنة، يدعم كلامه بالآيات القرآنية.. لماذا..؟ كلمة (الله) كرّرها أربعة وثلاثين مرة فى خطابه.. لماذا..؟ لماذا إدخال الله فى خطاب سياسى لرئيس دولة..؟ هل يمكن مناقشة الله سياسيا..؟". الفنان الكوميدى شُكوكو فقط هو الذى يستطيع أن يردّ على هذه الأسئلة العويصة، حيث يغنى فى منولوج شهير من تلحين محمد عبد الوهاب: "يا دابحة قلبى بقزازة لماذا الظلم ولماذا". أعجبُ أن تبلغ السفاهة ببعض الكُتَّاب أن يجعلوا من حقهم فى التعبير مقدّسا، وهم يسخرون بالمعتقدات الدينية لشعب بأكمله، ويسخرون بعباداته ورموزه وحضارته، ويصرّحون بأن الإيمان الدينى تخلّفٌ.. وفى الوقت نفسه لا يعترفون بحق المؤمن أن يعبِّر عن إيمانه حتى ولو كان رئيسا للجمهورية.. ومن ثم افترضوا لأنفسهم وصاية على ما ينبغى وما لا ينبغى أن يقوله أو يفعله، ويطالبونه بأن يمحو من قاموسه لفظ الجلالة والصلاة على النبي، والصلاة فى المسجد، كأنها من العورات التى ينبغى ممارستها سرًّا أو التستّر عليها فى البيوت! اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا! [email protected]