تراوحت مواقف قوى المعارضة المصرية من استحقاق السابع من سبتمبر الرئاسي. فبينما شارك به عدد من الأحزاب بمرشحين نافسوا الرئيس مبارك مرشح الحزب الوطني الديمقراطي كان أهمها حزبي الوفد والغد، قاطعه التجمع والعربي الناصري وحركة كفاية وغيرها من المجموعات الاحتجاجية الجديدة. أما الإخوان المسلمون فدعوا المصريين للمشاركة دون الإفصاح عن تأييدهم لمرشح بعينه . واكتفوا بإيماءات رمزية فسرت على أنها ضد التمديد للرئيس مبارك أو بعض تلميحات بتفضيل أيمن نور مرشح حزب الغد.وإذا ما نحينا جانباً تجاوزات الحزب الحاكم يوم الاستحقاق الرئاسي والغياب الجزئي (الإعلام) أو المطلق (الأجهزة الأمنية) لحياد مؤسسات الدولة، فإن أداء المعارضة المصرية جاء في حدود البيانات الرسمية ووفقاً لتقارير منظمات المجتمع المدني التي تابعت سير العملية الانتخابية ضعيفاً للغاية. فلم يحصل نور سوى على نسبة 6,7% من أصوات الناخبين ولم يتجاوز نعمان جمعة فاصل الثلاثة بالمئة، في حين اقتربت نسبة تأييد مبارك من 89%. نحن إذن أمام صورة أحزاب وحركات معارضة هامشية لم تتمكن من منافسة الحزب الحاكم ولم تستطع حشد مساندة قطاعات شعبية واسعة خلف مرشحيها (لم تزد نسبة المشاركة في الانتخابات عن 23% وفقاً للتقديرات الرسمية الأكثر إيجابية من تقارير المجتمع المدني) أو لتعبئة ضغط جماهيري فعلي يصب في اتجاه المقاطعة وإثبات عجز نظام مبارك عن تمرير التمديد بسلام.ولذلك العديد من الأسباب البنيوية أي تلك المتعلقة بطبيعة النظام السياسي المصري وحدود الإصلاحات المستحدثة في الأعوام الماضية ووضعية المعارضة به والذاتية المرتبطة قصراً بالأخيرة بما تنتجه من رؤى وتفاعلات سياسية. فمن جهة أولى، لا يجد من ينظر إلى مصر في اللحظة الراهنة ويقارنها بفترات سابقة على مدار العقدين الماضيين اختلافات جوهرية في طبيعة النظام السياسي. فلم يطرأ تغير يذكر على موقع الحزب الوطني الديمقراطي كحزب مهيمن ومتداخل مع مؤسسات الدولة ومازال تركز القوة المجتمعية بمعناها الشامل في يد نخبة الحكم يحول دون الانتقال من نمط التعددية السياسية المقيدة إلى بدايات تحول ديمقراطي حقيقي. أما سياسات الإصلاح المتبعة في الفترة الماضية فجاءت بما فيها تعديل المادة 76 من الدستور للسماح بانتخابات رئاسية وقوانين مجلسي الشعب والشورى ومباشرة الحقوق السياسية وقانون الأحزاب مخيبة للآمال المشروعة للمصريين ولم ترتب سوى حراكاً محدوداً هو بالقطع غير مسبوق من حيث زخمه ومن حيث بروز مساحات جديدة لفعل القوى المختلفة إلا أنه لا يغير حقائق الهيمنة والسلطة. دلل استحقاق السابع من سبتمبر الرئاسي على هذا الأمر بجلاء شديد. فبعد أن استبعد تعديل المادة 76 فعلياً إمكانات ترشح المستقلين مهمشاً بذلك جماعة الإخوان المسلمين ذات الوزن الشعبي المتميز والحركات الاحتجاجية الجديدة، زاد عدم إلغاء قانون الطوارئ وقانون الانتخابات الرئاسية وعمل لجنتها الإشرافية من العقبات الموضوعة أمام المعارضة للمنافسة عن طريق قصر الفترة الزمنية للحملة الانتخابية على أسابيع ثلاثة أو التلاعب بالاستراتيجيات التقليدية المعتادة حتى صبيحة يوم الانتخاب بمطالب القضاة ومنظمات المجتمع المدني بشأن الإشراف والرقابة على اللجان الانتخابية. وإذا ما أضفنا إلى ذلك رفض الرقابة الدولية، وهو مبدأ تقبله بل وتتحمس له الحكومة المصرية دولياً، وعدم تمكين المصريين في الخارج من المشاركة واستغلال أجهزة الدولة لضمان تأييد مرشح الحزب الحاكم والتجاوزات الموثقة في عدد من اللجان يصبح القول باضطهاد المعارضة وتحميل النظام تشريعاً وتنفيذاً على أقل تقدير المسؤولية الجزئية لضعف أدائها بمثابة تسليط الضوء على حقيقة بنيوية للسياسة في مصر لا تبدو اليوم في سبيلها إلى التغيير. لم يغير الحراك الذي تشهده مصر - حتى الآن - منطق الإدارة السلطوية لعلاقة نخبة الحكم بقوى المجتمع ووضعية الحزب الواحد المهيمن في التحليل الأخير على مؤسسات الدولة على الرغم من الحيوية السياسية البادية اليوم في العديد من مواقع المعارضة بل وداخل البنى الرسمية بما فيها على سبيل المثال الهيئات القضائية الساعية إجمالاً إلى انتزاع استقلاليتها الذاتية من السلطة التنفيذية والنقابات المهنية وغيرها. إلا أن الوضعية الهامشية للمعارضة لا تعني إعفاء أحزابها من مطلق المسؤولية عن أوجه القصور في خطوات الإصلاح السياسي الراهنة في مصر. فالثابت أن الأحزاب الرئيسية أي الوفد والتجمع والعربي الناصري والغد تعاني بغياب الديمقراطية الداخلية وضعف التنظيم وغياب حراك القيادات على نحو يضعف من قدرتها على الخروج إلى الشارع والتواصل مع قواعد شعبية في المناطق الحضرية أو الريفية. الأخطر من ذلك أنها لم تتمكن في العامين الماضيين سياسات الإصلاح الماضيين من صياغة رؤى وبرامج واضحة المعالم تتوجه بها للمصريين سعياً للتأييد والمساندة. بل اتبع حزبا التجمع والعربي الناصري بمقاطعتهما للاستحقاق الرئاسي منطقاً يصلح للحركات الاجتماعية الاحتجاجية وينافي بديهيات دور الحزب السياسي الباحث عن المشاركة والتواجد وإن تعددت العقبات وتوارت فرص المنافسة الفعلية. على الرغم من إمكانية التعاطف فكرياً مع تعابير من شاكلة «مهزلة الانتخابات» أو «مسرحية الحزب الوطني» والتي رددتها الأحزاب الممتنعة، إلا أن خبرات التحول الديمقراطي التدرجي في مجتمعات مرت بلحظات انتقالية شبيهة بمصر اليوم تدلل بوضوح على أن مشاركة المعارضة في ظل أسوء ظروف ممكنة تساهم في خلق دينامية جديدة تدفع بدورها وبمجمل التفاعلات السياسية إلى الأمام. أضاعت هذه الأحزاب فرصة هامة لتذكير المواطنين المصريين بوجودها غير القاصر على صحفها المطبوعة ولم تولد بمقاطعاتها سوى القليل المتناهي من رأس المال السياسي، بل تميزت عليها هنا الحركات الاحتجاجية مثل كفاية وغيرها التي أصبح الرأي العام المصري يربط المقاطعة بمواقفها ونشاطاتها هي.أما الأحزاب التي شاركت وأهمها الوفد والغد فجاء أداؤها في عمومه أكثر رصانةً ونضجاً واستفادت ولا ريب من مساحات نوعية جديدة في المجال العام صاغها الاستحقاق الرئاسي على الرغم من نواقصه العديدة التي سبق الإشارة إليها. خروج نعمان جمعة وأيمن نور إلى الشارع، مخاطبتهم المواطنين في مؤتمرات شعبية، تفعيلهم لبقايا (الوفد) أو بدايات (الغد) قواعد حزبية في الحضر والريف، التواجد الإعلامي مستغلين في ذلك دور الفضائيات ومحاولة إبداء قدر من الحياد من جانب الإعلام الرسمي كل ذلك ضخ حيوية مفتقدة في أوصال الحزبين وأنهى بداخل كل منهما الرابطة القسرية بين ممارسة السياسة وحوارات المجالس المغلقة وهي سم قاتل لكل حزب سياسي. يتجاهل اختزال تداعيات مشاركة الوفد والغد في الحصيلة المعلنة بعد السابع من سبتمبر أهمية الفاعلية السياسية الآنية لهما وما سترتبه من آثار إن على مستوى تنظيمها الداخلي أو مشاركتها المتوقعة في الانتخابات البرلمانية المقبلة.إلا أن موضوعية التحليل تقتضي أخيراً الإشارة إلى سلبيات ذاتية شابت أداء الحزبين. فمن جهة جاءت صياغة البرنامج الانتخابي لجمعة ونور مبتورة غير واضحة بل وشديدة العمومية. غابت الرؤية محددة الملامح لسياسة رئيس وفدي محتمل فاقتصرت على عموميات ترددها صحف المعارضة ولم تطور فهماً لاستراتيجيات وأدوات التغيير المرجو. أما نور فنافس مرشح الحزب الوطني في ترديد الوعود الانتخابية كبديل عن تقديم برنامج عمل لحكومة ظل وخصص جل وقت لقاءاته الشعبية لانتقاد الحزب الحاكم بأسلوب أقرب إلى أحاديث القنوات الفضائية تميز بالجرأة والتشويق إلا أنه لم يزد من مصداقيته كسياسي قيد أنملة. أخيراً اجتمع الحزبان، إذا ما استثنينا الحديث الجزافي عن إعانات بطالة وفرص عمل، على تجاهل التركيز على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية للمصريين وتطوير رؤى واقعية للتعامل معها وهو ما شكل قصوراً في الرؤية الاستراتيجية لأحزاب معارضة في مجتمع فقير ضاق مواطنوه ذرعاً بفساد نخبة الحكم ويشغلهم قوت اليوم قبل أي شيء آخر ورتب مع عوامل أخرى ضعف نسبة إقبال الناخبين على التصويت. يبقى على الرغم من ذلك كبديل وحيد لحزب معارض يعمل في إطار نظام سياسي شبه سلطوي التوجه نحو المشاركة ومحاولة توسيع مساحات الفعل النوعي والتمايز في الرؤى والبرامج المعلنة حين المقارنة بغيره من الأحزاب. فلم تنتج محاولات الوفد والغد التقرب من جميع التنظيمات المعارضة في مصر تحت تأثير وهم التحالفات الوطنية سوى ميوعة مواقفهما على نحو شكك الناخب في جوهر سياساتهما المحتملة. ----- صحيفة البيان الإماراتية في 22 -9 -2005