اختلف النقاد، قدماء ومحدثين، حول علاقة الشكل بالمضمون. فصل القدماء بينهما طبقا للثنائيات التقليدية القديمة: اللفظ والمعنى، البدن والنفس. فالمضمون مستقل عن الشكل استقلال المعنى عن اللفظ، والنفس عن البدن. المعنى ثابت في الذهن، واللفظ يتبدل. والوجود الذهني سابق على الوجود اللفظي. المعنى في الذهن واللفظ في اللسان والحلق. لذلك نشأ علمان منفصلان. علم المنطق لضبط المعاني وطرق الاستدلال، وعلوم البلاغة لاختيار أحسن الألفاظ وأفضل الأساليب طبقا لتعريف البلاغة القديم "حسن القول طبقا لمقتضى الحال". أما النقاد المحدثون فقد وحدوا بين الشكل والمضمون. فلا مضمون بلا شكل، ولا شكل بلا مضمون. يفرض الشكل مضمونه كما يفرض المضمون شكله. ومن هنا نشأت البنيوية والأسلوبية ومناهج تحليل الخطاب. وإذا كان القدماء قد وقعوا في المثالية وعالم الماهيات المستقل عن عالم الوقائع فإن المحدثين قد وقعوا في الشكلانية اللفظية. وربما تحتاج علوم اللغة إلى نظرية جدلية ثالثة لا تجعل العلاقة بين الشكل والمضمون علاقة آلية ثابتة، تمييزا أو توحيدا، انفصالا أو اتصالا، بل علاقة متحركة. يختار المضمون شكله أولا. ثم يعيد الشكل تكييف مضمونه ثانيا. ثم تظهر الوحدة العضوية الحركية بينهما في تجدد مستمر لكليهما معا طبقا لآليات الإبداع. والانتخابات مجرد شكل أو آلية لتحقيق الديمقراطية وليست غاية في ذاتها وإلا وجد الشكل دون المضمون أو وجد مضمون مغاير بل نقيض للديمقراطية وهو الطغيان أو كما يقول ابن رشد في جوامعه على جمهورية أفلاطون "وحدانية التسلط". الانتخابات هنا مجرد تبرير للتسلط وتشريع للطغيان. تهدف إلى معرفة رأي الناس وإدراكهم للمصالح العامة ولأفضل من يمثلهم في الديمقراطية التمثيلية أو الديمقراطية البرلمانية أو في الديمقراطية المباشرة. الانتخابات آلية لآلية، آلية للديمقراطية، والديمقراطية آلية لتحقيق المصالح العامة. الانتخابات وسيلة لا غاية، وسيلة لإشراك الناس في إدارة شؤون البلاد واختيار حكامها. والديمقراطية أيضا وسيلة لا غاية، وسيلة لتحقيق المصالح القومية بمشاركة الناس ضمانا لتحقيق عمل أنجح وأفضل من بيروقراطية الدولة أو فردية الحاكم. والسؤال هو هل هناك موانع للديمقراطية في بعض الثقافات ولدى بعض الشعوب كما تروج لذلك بعض النظم العنصرية صاحبة التفوق الحضاري؟ فأوروبا نموذج للديمقراطية في نظم حكمها وليست آسيا أو أفريقيا أو أميركا اللاتينية. في الغرب وحده منذ القرن السابع عشر نشأت نظرية العقد الاجتماعي عند لوك واسبينوزا ونظّرها روسو في القرن الثامن عشر لتفسر نشأة السلطة في المجتمع عن طريق التفويض، تفويض الناس عن رضا جزءا من سلطتهم إلى واحد يختارونه فيما بينهم ليحقق الإرادة العامة La Volonté Générale. في حين عاش الشرق في "الاستبداد الشرقي" Le Déspotisme Oriéntale كما نظّره مونتسكيو. ثم أضيفت عليها نظريات "المستبد العادل" أو "الزعيم" لتفسير بعض النظم السياسية في بعض الثقافات الأخرى في أفريقيا وأميركا اللاتينية التي يجبّ فيها الفرد الدولة، ويعبر بقدراته الخاصة عن روح الشعب ومصالح الأمة. ويضرب المثل قديما بالفرعونية في مصر والتي مازالت في اللاوعي الجمعي للمصريين. هو الله الذي يقرر ماذا يفعل، وما على الشعب إلا الطاعة. وعندما أتى الإسكندر إلى مصر اعتبره المصريون ابن الإله رع أو آمون. ورأى فيه المفسرون "ذو القرنين" الذي يتحدث عنه القرآن بلغة الإعجاب. وجعله الفلاسفة موحدا بالله ينشر التوحيد في ربوع أفريقيا وآسيا، وليس فقط تلميذ أرسطو. واستمرت الفرعونية في الكنيسة القبطية في الدور المركزي الذي يقوم به رئيس الكنيسة الأرثوذوكسية الذي يتوحد مع الملك أو الإمبراطور في العصر البيزنطي. وكانت الثقافة اليونانية الرومانية التي مارست الديمقراطية اللاتينية في أثيناوالرومانية في روما، ثقافة وافدة من الخارج. وبقت هامشية في مقابل مركزية الموروث. واستمرت مركزية السلطة في الثقافة الإسلامية في مصر السنية في الفقه، الشيعية في الثقافة الشعبية التي تقوم على تأليه الإمام كما ظهر لدى الحاكم بأمر الله، وتقديس الأئمة المعصومين، وتبجيل آل البيت. وعمت ثقافة الأولياء وسلطتهم وقدرتهم على إجراء المعجزات. وظهر حورس من جديد، رمزا لشركة مصر للطيران، والمعارض الفنية في الداخل والخارج في صورة "ابن البلد"، وفي الأغاني الشعبية "البلد عاوزه ولد"، والفتوة في ملحمة "الحرافيش"، والزعيم في مسرحية "الزعيم". وتعلم التلاميذ في المدارس دور منقذي مصر الكبار، أحمس طارد الهكسوس، وصلاح الدين محرر القدس، ومحمد علي باني مصر الحديثة، وعبد الناصر مفجر ثورة يوليو ومؤسس التجربة الاشتراكية ورائد القومية العربية. وفي الحياة الوطنية، ثم التركيز أيضا على زعماء مصر الوطنيين: أحمد عرابي، عبد الله النديم، مصطفى كامل، محمد فريد، سعد زغلول، مكرم عبيد، مصطفى النحاس أكثر مما ذكر الشعب وحركات الجماهير وصفوف المقاومة. فالزعيم يجسد روح الشعب. والغناء له والمدح في "كامل الأوصاف" و"عاش اللي قال" و"زعيمنا جمال"، ورئيس الجمهورية الثانية "آخر فراعنة مصر"، وزوجته "ملكة مصر" نفرتيتي وكليوباترا وحتشبسوت وشجرة الدر معا. ولم يقتصر ذلك على مصر. بل عمّ النموذج في آسيا عند ماوتسي تونج، وهوشي منه، وغاندي، ونهرو. وظهر أيضا عند محاضر محمد، باني ماليزيا الحديثة في المادة 116 التي تعطي له سلطات استثنائية. وظهر في أميركا اللاتينية عند بيرون والبيرونية في الأرجنتين. بل ولم يخل النموذج الأوروبي الديمقراطي منه في المادة 16 في الدستور الفرنسي التي تعطي ديجول سلطات استثنائية لإنقاذ البلاد من الخطر. وإذا كانت الانتخابات مجرد آلية للديمقراطية، والديمقراطية مجرد وسيلة لمعرفة اتجاهات الرأي العام ورؤى القوى السياسية، فقد يستوفي النموذج الأوروبي الشكل دون المضمون. فلا فرق بين الجمهوريين والديمقراطيين، أكبر حزبين سياسيين في الولاياتالمتحدة الأميركية، في العدوان على العراق، وتأييد إسرائيل، وتدعيم النظام الرأسمالي. ولا فرق بين المحافظين والعمال، أكبر حزبين سياسيين في بريطانيا أيضا، في العمل لنفس الأهداف. لذلك إن لم تكن الديمقراطية وآلية الانتخابات وسيلة لتحقيق نسق من القيم، أو مشروعا قوميا يجسد مصالح الناس فإنها تكون مجرد شكل دون مضمون. وليس للديمقراطية شكل واحد أو نموذج أوحد بل تتعدد أشكالها. والشورى أحد الأشكال، تحقق الديمقراطية سلبا، وهو عدم التفرد بالرأي والقرار دون استشارة أهل الاختصاص، أهل الحل والعقد بتعبير القدماء، لتجنب الدوافع الشخصية أو المصالح الطبقية. ومعظم مآسي العرب من القرارات الفردية مثل زيارة رئيس الجمهورية الثانية للقدس، وعقد اتفاقيات كامب ديفيد، ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، والخصخصة، والاعتماد شبه الكامل على الولاياتالمتحدة، وغزو العراق للكويت. شرط الديمقراطية الأول هو حرية الرأي، وتداول السلطة. "إني وليت عليكم ولست بخيركم" ضد التمديد إلى ما لا نهاية. والعقد والبيعة والاختيار ضد التوريث وضد الانقلاب العسكري الذي سماه القدماء "الشوكة". ------- صحيفة الاتحاد الاماراتية في 24 -9 -2005