تغيرَ المشهد السياسي المصري. الانتخابات الرئاسية فيه كانت فصلاً مهماً من فصوله. قبلها التظاهرات والفعاليات والصحافة المستقلة «المنطلقة». وبينهما سجال (خفتَ أخيراً) عن تغيرات بفضل «الخارج» أو «الداخل». تغير المشهد المصري، ولم يعُد البطل فيه واحداً، يحوم حوله حمَلة المباخر. صار هناك ابطال عدة. وكل منهم محمول على «دور». لكن المشكلة أن هذه الأدوار غامضة، لا تدرك شيئاً من أفقها أو «أجندتها»... وجمهور المشهد يحدس ان المعنى خلف الكواليس، وعُرضة لإشاعات وأقاويل... فالأرجح أن الفوضى من معالم هذه المرحلة الجديدة من تاريخ مصر. هذه الفوضى تلقتها بمئة إشارة وإشارة، في اليوميات كما في السياسيات. والفوضى ابنة الاضطراب، أي أنها ابنة هذه الحقبة من العصر الجديد - القديم. مثل واحد عن هذه الفوضى، كما تبلورت بعيد الانتخابات الرئاسية. شرعية ثورة تموز (يوليو) والضباط الأحرار انتهت، ولم تنته. الشعوبية والانتي - اميركية ومقاعد العمال والفلاحين في البرلمان... تتعايش مع البزنس ومع أمْركة طرق المخاطبة وكادرات الصور والرموز. الأحزاب الناصرية المناهضة للنظام تستمد هي أيضاً شرعيتها من ثورة يوليو. منها حزبان: الأول في طريقه الى الشرعية الحزبية بعد انتظار (حامدين صباحي وحزب «الكرامة») والثاني من ضمن المعارضة «الشرعية» للنظام، وقد قاطع الانتخابات. شرعية الليبرالية انتهت أيضاً ولم تنته. «الوفد» حزبها التاريخي، حزب ثورة 1919 الوطنية المحفوظة نقية في ذهن المصريين... ترشح رئيسه نعمان جمعة للرئاسة في الانتخابات الأخيرة ضد الحزب الحاكم الخارج عن شرعية الثورة الاشتراكية والداخل، مرتبكاً، الى شرعية نيوليبرالية. و»الوفد» دخل كذلك في تنافس طاحن مع حزب «ليبرالي» آخر، زعيمه كان انشق عنه (حزب «الغد» بقيادة ايمن نور). رئيس حزب «الوفد» لم يخسر امام الرئيس مبارك، فهو لم يترشح لهذا الغرض، بل أمام أيمن نور، شقيقه الايديولوجي، حصل على 200 ألف صوت مقابل ما يزيد على النصف مليون لأيمن نور... أما الليبراليون والليبراليون «الجدد» فموزّعون بين الحزبين الآنفين، وعلى بقية الاحزاب والمؤسسات، وهم متناثرون بين الموالاة والمعارضة... الاخوان المسلمون ايضاً انتهت شرعيتهم ولم تنتهِ. لم يكن الاخوان ناصحين، أو ربما وقعوا ضحية خديعة من خدع التاريخ. اعتقدوا بأنه في لحظة ما من هذا التاريخ سيمكنهم شهر سلاح هيكلهم التنظيمي المحكم الدقة والانضباط، والذي امضوا اجيالا يبنونه ب «حرية» خارج رقابة الدولة وبطْشها. وإذا بهذا الهيكل الثقيل يتحول الى عبء مادي ومعنوي. فيعجز بعد انتكاسة سريعة عن لمْلمة نفسه بوجه سلطة يعاديها ويلعب معها أخبث الالعاب. الانتخابات اجهضت حلمه. لكن المكْلمة الاسلامية، والاحتياط لمفرداتها وطقوسها ورموزها... ما زالت هي هي: النظام غائص فيها، ومعه المؤسسة الدينية الرسمية (الاسلامية والمسيحية) الداعمة له والمدعومة منه. وكذلك أحزاب اخرى غير اسلامية، فضلاً عن ابو العلا ماضي، المنشق عن «الاخوان» والذي حصل على رخصة لحزبه الاسلامي «الوسطي» والمعتدل. الانتخابات الرئاسية فتحت لهذه الفوضى امكانية ان تسمّى وتوصف. اخرجت المسكوت عنه واطلقت العنان لديناميكيات جديدة. بالانتخابات, حلّت حقبة حبلى بالفرز والتلوّن. هي الآن حقبة اضطراب، مثلها مثل تلك التي تشهدها اخواتها العربيات. وفوضى الشرعيات مثلٌ واحد. فالأمر الواقع الحيّ فوضى ايضاً. لذلك فإن السؤال الرائج من قبيل «تغيير حقاً، أم عودة الى الوراء؟» يحتاج الى توقف. فالفوضى نفسها تنفي الجمود. بل مجرد العودة الى الوراء تنطوي على محاولات ومقاومات، كفيلة وحدها بتحريك الاشياء والكلمات. اما السؤال الآخر «تغيير حقيقي» أو «تغيير كاذب»، فهو بدوره ناشئ عن انقسام حاد بين ضفتي التفكير السياسي السائد الآن. ضفة الألترا معارضين، اصحاب خطاب من نوع «دعوة ديموقراطية في خدمة الامبريالية»، الذين لا يرون في الانتخابات سوى تمثيلية رديئة (مع انها كانت مسلية) ثم ضفة الألترا موالين، الذين يتحدثون عن «حتمية التطور الديموقراطي» أو «أزهى عصور الديموقراطية». والشعار الأخير، بالمناسبة، كان رائجاً ايضاً قبل الانتخابات، واثناء المبايعات الرئاسية المتتالية... والحال ان التغيير حاصل، وارتدادات ما بعد الانتخابات، وكلها جديدة،تشير اليك بما صار ممكناً وصفه. لكنه يحتاج الى من يصغي اليه، الى من لا يؤمن بطيبة التاريخ، الى من يتمرن على وتائره المتفاوتة. وهذه مهمة منوطة بأصحاب الادوار الجديدة، أو الصاعدة او الخلافية او المثيرة للجدل او حتى المتأمّلة... فهؤلاء دشنوا ادوارهم على تغيرات المرحلة، ويحتاجون الآن الى مدد من المعاني, تفْعم هذه الادوار. عادة الركود من أسوأ نصائحهم. الاعتياد على الركود، على لغة الركود،جسد الركود... يضعف يقظتهم لما يدور ويتحرك حولهم. ان تكون في قلب معْمعة التغيير، ان يصيبكَ التغيير شخصياً... التغيير الفوضوي وليس البسيط، السلس على الفهم... وان تبقى في الوقت عينه ملتزماً بترداد ان «شيئاً لم يتغير في هذه البلاد» إنما هذه من العادات الذهنية السيئة المترسّبة من عهود الركود المديدة. كثيرون من أصحاب الأدوار الجديدة يزاوجون بين إرث الركود وإرث النرجسية، وكلاهما ثقيل. فيتصرفون مع هذا التغيير وكأنه لا يعني سوى الكلمة المعهودة السرية:» الحل هو انا». أو بمعنى مباشر، انه لا يعني سوى ترؤسهم او تزعمهم او تصدرهم للقول او للشاشة. هؤلاء كُثر: سنوات الركود عزّزت أوهامهم الشخصية وسمحت لهم الشاشة الصغيرة، الفطرية بتكاثرها، باشفاء غليلهم ورؤية صورتهم في المشهد تزاحم صورة البطل المطلق. والبعض من هؤلاء حدد (سلفاً؟) دروه في المشهد، عن طريق نفي مطلق للتغيير. فما لم تكن هناك انتفاضة جماهيرية منظمة،يقودها حزب اكثر جماهيرية وقائد صنْديد، وكوادر من الطاهرين... نحو السعادة أو العدالة المطلقة، تقضي على الاخضر واليابس، وتعود فتبني من جديد... ما لم يتوفر في التاريخ «لحظة» تجتمع فيها كل هذه «الشروط»، فسنبقى «كما كنا...». وكأن الإمعان في نفي التغيير لا يعني تغييرا بحد ذاته: تغييرا في الدور، او تعديلا في حجمه... ثمة إرث مباشر يتقاسمه معظم التواقون الى التغيير والمهمومين بعراقيله، وقوامه التغيير هو حتماً نحو الافضل. وان لم يكن «افضل» فهذا ليس تغييراً، بل عودة الى ماض مرذول، إرث من أجداد الايديولوجية الحداثية. التغيير الذي تدشن الانتخابات الرئاسية أول فصوله قد لا يأتي بالاصلاح المنشود، ولا بالرخاء الاقتصادي الموعود جداً في برنامج الفائز بالرئاسة. لكن المشهد الذي أتى بموازاة هذه الانتخابات وبعيدها لا يختلف عن السابق بتعدد الادوار والابطال فحسب، بل ايضا بتعقّد معطياته، باهتزاز شرعياته وانطلاقة فوضاه. مصر في دائرة الاضطراب. وحظها الجغرافي والتاريخي أعفاها حتى الآن من اضطراب تُراق فيه الدماء. فلا هي تحت ضغط دولي كاسح، ولا بين تكويناتها العضوية فصائل مسلحة، ولا أرضها محتلة مباشرة... نظام كانت له منهجية خاصة بالمناورة والقمع والاحتواء. وهو الآن بصدد إرساء منهجية خاصة بمقاومة التغيير ومجاراته في آن. والرهان الآن ان تتغير مصر نحو الاكثر تعقيداً، وبأقل الآلام الممكنة. فهل تنجو؟ وتتفوق على اشقائها وتعود رائدة؟ ------ صحيفة الحياة اللندنية في 25 -9 -2005