ساهم الانطباع بأن الدولة في مصر تنتوي اصدار قانون جديد لتنظيم الانتخابات البرلمانية المقبلة في اشاعة مناخ من التفاؤل حول ايقاع عملية الاصلاح السياسي‚ وكانت بعض التصريحات تشير الى أن هذا القانون سيجمع بين نظام الانتخاب بالأغلبية المطلقة أو الانتخاب الفردي من ناحية ونظام القوائم الحزبية أو التمثيل النسبي قد أنعشت الآمال في احياء الحياة السياسية وربما انتاج طبقة سياسية جديدة نسبيا تأتي جزئيا على الأقل من الأجيال الشابة وانتاج برلمان أقل خضوعا لاحتكار الحزب الوطني وأكثر توازنا في تمثيل التيارات السياسية الكبري في البلاد‚ فهل نترك تلك التصريحات تقضي على هذه الامال؟. الاجابة هي بالقطع بالنفي‚ فالفكر السياسي المصري لا يمكنه قبول هذه النتيجة المحبطة‚ فما العمل؟ وكيف نعزز ايقاع الاصلاحات السياسية والدستورية في الفترة القصيرة المقبلة؟ الواقع إننا لو حصرنا المناقشة في تحسين نوعية البرلمان المقبل لما انتهينا الى نتيجة حاسمة. لا شك أن اصدار تشريع جديد لانتخابات مجلس الشعب يجمع بين الفردي ونظام القوائم الحزبية كان من الناحية النظرية هو الاختيار الأمثل‚ فنظام القوائم الحزبية يقوي الأحزاب المهمة في مصر‚ وقد ينتج نظاما أقل خضوعا لاحتكار الحزب الوطني ويساعد بلادنا على الانتقال من نظام حزبي صار في الواقع العملى يقوم على حزب واحد ويخلصنا من الصورة السلبية للفشل في انتاج تعددية سياسية بالرغم من مرور ثلاثين عاما على نهاية الاتحاد الاشتراكي العربي‚ كما أن نظام التمثيل النسبي هو الطريقة المثلى لتقوية الطابع السياسي للانتخابات العامة والتي صارت أسيرة تماما لمعادلات لا شأن لها بالسياسة أو المصالح العامة للأمة‚ فهي تدور وجودا وعدما حول الخدمات الصغيرة والمنافسات البدائية حول المكانة بين شخصيات متنفذة في المجتمع المحلي وبين القرى وأحيانا بين المراكز والمدن الصغيرة التي تقع في دائرة واحدة‚ وربما لا نبالغ اذا قلنا أن معادلة الصوت مقابل الخدمات كان أحد ابرز الأسباب لاهدار حياد الادارة الحكومية بل ولاهدار المساواة وحكم القانون ولا يختلف في ذلك عن الفساد الكامن في آلية «الواسطة»‚ وفضلا عن ذلك فان الانتخاب الفردي يتحيز تماما لصالح الأجيال القديمة وضد الأجيال الشابة ولصالح الأغنياء وضد الفقراء الذين لا يستطيعون مواجهة أعباء عملية انتخابية مكلفة ماديا وصار المال يلعب فيها دورا كبيرا‚ ويتوقع البعض بقدر من التشاؤم أن الانتخابات البرلمانية المقبلة ستتيح لرجال الأعمال اجتياح مجلس الشعب المقبل‚ وبالمقارنة فنظام التمثيل النسبي يقيم المباراة السياسية على قاعدة الأفكار والمصالح العامة المشتركة للأمة‚ ويفتح الباب أمام تقوية النقاش العام بين تيارات سياسية وقد ينتج طبقة سياسية جديدة نسبيا لأن الأجيال الشابة التي تحمل لواء مختلف تيارات الفكر والسياسة سيكون لها ثقل اكبر في القوائم بالتوازي مع ثقلها الأكبر في المجتمع‚ ومن المحقق أن نظام التمثيل النسبى سينتج برلمانا أكثر عطفا على قضية الاصلاح السياسي والدستوري من البرلمان الحالي‚ ولكن ثمة أكثر من حجة منطقية وراء تأجيل الأخذ بهذا النظام الانتخابي المتوازن‚ فيكاد يكون من المستحيل أن يصدر تشريع جديد للانتخابات من البرلمان الحالي في غضون الفترة الزمنية المتبقية حتى عقد الانتخابات الجديدة لمجلس الشعب في نوفمبر المقبل‚ ومن ناحية ثانية فان الذين يقترحون أن يصدر هذا التشريع بقرار بقانون من رئيس الجمهورية يقعون في تناقضات كثيرة‚ فأحد أهم محاور الاصلاح السياسي أن يتم تقييد السلطات الممنوحة لرئيس الدولة وفقا لدستور 1971 بما فى ذلك صلاحية اصدار قرار قانون وهو الأمر الذي يحصره الدستور في فترات غياب المجلس‚ وليس من الحكمة أن يصدر تشريع بهذه الأهمية بقرار منفرد من رئيس الدولة الذي هو في الاصل القابض على السلطة التنفيذية. غير أن عندي حجة اضافية تميل الى تأجيل اصدار هذا التشريع‚ فالأحزاب المهمة القديمة تكونت هياكلها في فترة اتسمت بالركود السياسي‚ تجمدت هياكلها وضمرت مع الوقت‚ وهجرتها الأجيال الشابة فصارت جميعا - كما أظهرت الانتخابات الرئاسية في السابع من سبتمبر- اسيرة أجيال كهلة أو عجوز لا يمكنها أن تتلامس مع هموم وتطلعات شباب هذا الوطن وهم الأغلبية الساحقة‚ والأهم أن معظم أن لم يكن كل زعامات الأحزاب القديمة القائمة أدارت أحزابها بقدر كبير من الاستبداد والمركزية بل والتعسف‚ والانتقال الى نظام التمثيل النسبي يمنح سلطات واسعة لهذه الزعامات نفسها لتكريس سلطتها الاستبدادية‚ والواقع أن هذا الجانب من صورة الحياة السياسية فى مصر لم يحظ بالاهتمام المناسب من الفكر السياسي في مصر‚ اذ يستحيل أن تتعزز الديمقراطية على المستوى الوطني ان كانت كل الأحزاب القديمة تدار بصورة استبدادية‚ ولا مقام هنا للأخذ بمقولة الاختلاف والتباين بين الادارة الحزبية وادارة الدولة، فالفكرة هي بالأصل سخيفة في أفضل الأحوال وهي تمجد الاستبداد داخل الأحزاب وتعوق تطور ثقافة ديمقراطية دخل الطبقة السياسية‚ ويشهد الواقع الراهن صراعات شديدة من أجل اصلاح نسق الادارة الحزبية في كل الأحزاب المهمة تقريبا‚ وتنظيم الانتخابات البرلمانية المقبلة بتشريع يقوم على القوائم الحزبية يقطع الطريق على النضال الاصلاحي داخل الأحزاب وهو جانب لا يقل أهمية عن النضال من أجل الاصلاحات الديمقراطية على مستوى الدولة ككل‚ وعلى نفس المنوال فان الانتقال السريع لنظام انتخابي يأخذ بالقوائم الحزبية يتحيز لصالح الأحزاب القديمة وضد الأحزاب البازغة والشابة أو التي تنتظر الحصول على موافقة لجنة الأحزاب أو أحكام قضائية ايجابية. ولكن ان كان من المحتم أن تنعقد الانتخابات البرلمانية المقبلة بالنظام الفردي فهل يعني ذلك التسليم بمثالب تطبيق هذا النظام في مصر‚ وهي مثالب يعاني منها الجميع بمن فيهم الحزب الوطني؟ قطعا لا‚ وأعتقد أن الحل السليم هو التعويض عن هذه المثالب بإعمال آلية أخرى تماما‚ أعتقد أيضا أن تحقيق وفاق قومي حول مجمل المعمار السياسي الضروري لتجسيد فكرة الاصلاح السياسي والدستوري هو الآلية المناسبة وهو أهم في تقديرى ايضا من عقد الانتخابات البرلمانية المقبلة‚ فليس من المتوقع على ضوء الوقت القصير المتاح والأوضاع المهلهلة لأحزاب المعارضة أن يؤدي عقد هذه الانتخابات الى برلمان أكثر توازنا أو افضل نوعية‚ وبالمقابل فان التوافق الوطني حول الصورة العامة للاصلاح السياسي والدستوري هو الطريق السليم لتأكيد الالتزام به وتطبيقه بالايقاع الملائم وفي التوقيتات المناسبة‚ وفضلا عن ذلك فان احدى النتائج المتوقعة للتوافق الوطني أن يتم تعديل الدستور أو وضع دستور جديد بما يفضي بالضرورة الى حل المجلس المقبل قبل انتهاء مدته وفقا للدستور الحالي وفتح الباب امام تشريع جديد تعقد انتخابات جديدة على هداه. ما نقترحه هو أن نبدأ على الفور في تنظيم مؤتمر للحوار الوطني حول مستقبل مصر السياسي والدستوري تطرح فيه الآراء المختلفة أمام الشعب وتمثل فيه جميع تيارات الفكر والسياسة تمثيلا متوازنا حتى يتحقق الاجماع على الصورة المرغوبة للنظام السياسي الذي تتطلع اليه النخبة المثقفة والشعب على السواء‚ وقد ينتهي المؤتمر الى الأخذ بفكرة انتخاب لجنة تأسيسية تضع دستورا جديدا للبلاد أو يختار صيغة أخرى للاصلاح الدستوري تحقق الغرض نفسه أو تقوم على تعديل الدستور الحالي‚ والمتوقع أن تستغرق هذه العملية فترة تتراوح بين عام ونصف العام الى عامين وهي فترة مناسبة لعقد انتخابات نيابية جديدة‚ المفتاح الحقيقي للاصلاح لن يكون البرلمان المقبل بل الذي يليه اذا تم انتخابه كحصيلة لتوافق قومي في مؤتمر حوار شفاف ومتوازن وطموح. ---------------------------------------------------- الوطن القطرية